المهنة الأروع
على بوّابة الخروج من الجامعة وأنت ترتدي ثوب التخرّج تتزاحم صور سنوات طوال قضيتها على مقاعد الدراسة، ولربما تختلط المشاعر ما بين فرح بالتخرج عارم إلى حزن عميقٍ على فراق كل ما ألفته! وبين صور من الحياة العلمية عشتها ثم قطفت ثمرة جهدك فيها إلى صور من الحياة تستقبلها، ولربما شكلت رؤية مغلوطة عنها، من ذلك مثلاً كراهية بعض المهن إلى درجة المقْت.
أذكر أننا كنا نستعيذ من الشيطان الرجيم ثلاثاً حين كان يخطر ببال إحدانا أنها ستصبح «معلمة»، فتنتفض كأنما لدغها عقرب وتؤكد أنها ستبحث عن فرص أخرى.
ولربما زارني شيء من هذا الاستنكار لمهنة التدريس فأخذت أبحث عن وظيفة محترمة لفتاة تحمل شهادة البكالوريوس في الفيزياء الطبيعية من الجامعة الأردنية، وكان ذلك في عام ألف وتسعمئة وثمان وسبعين حين كانت وزارة التربية الأردنية تصرف «علاوة ندرة» لمدرّسي هذه المادة نظراً لندرتهم، وكضربة يأس قدمت طلباً للتدريس.
فكانت مفاجأتي الأولى أنني وُظِّفْتُ في أقرب المدارس لبيتي نظراً لكثرة الشواغر، وبعدها دخلت عالم التدريس البديع وأحببت هذه المهنة حتى النخاع، وكأنني ولدت لأكون مدرّسة، أحببت كل شيء في التدريس بدءاً بالموظفات البسيطات اللواتي كن يستقبلننا بابتسامة رضا مشرقة ويودعننا بدعوات خالصة، إلى حب الزميلات والهيئة التدريسية، إلى حب طالباتي الذي سكن شغاف قلبي؛ فقد كن شابات في المرحلة الثانوية وكانت مدرستي بجوار حي شعبي فقير تجرع مرارة حرب أهلية قضت على كثير من الآباء والأمهات والإخوة والأخوات في سنوات عجاف، لذا كنت أرى أثراً عظيماً لابتسامة لا إرادية ترتسم على وجهي أحياناً فتردها لي طالبة بابتسامة تفتح لها آفاق حيوية ونشاط... آه لو كانت مهنة التدريس بشراً لأشبعتها شكراً وعرفاناً لأنها المهنة الأجمل والأرفع والأروع.
فالمعلم يتعامل مع أرقى مخلوق في الكون، يتعامل مع الإنسان فيراه بقوته وضعفه، وبفرحه وترحه. وكم كنت أشعر أن طالباتي يحتجن لأشياء قبل علم الفيزياء، فأبدأ الدرس بذكر شيء مفرح وأنهيه بذكر حكمة مفيدة، شعوري ذاك كان يجعلني أطلب إشغال حصص الفراغ لنتحدث أنا وطالباتي بأريحية بالغة فيطلبن مني توجيههن ومتابعتهن.
رغم محاولاتي لإثبات حبي لمهنتي إلا أنني كنت أقع في أخطاء لم أغفرها لنفسي لشدة بشاعتها... من تلك الأخطاء أنني كنت يوماً أسائل طالباتي عن جواب سؤال صعب، فرفعت يدها طالبة هادئة مهذبة طلبتْ مني كتابته، ولما طال الأمر قلت لها: ما رأيك أن تتفضلي وتشرحي للطالبات هذه المسألة؟ فلما خرجت رأيتها تتكىء على عكـازين... فخنقتُ دمعتين! واستغفرت الله
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن