رمضان.. مع المراهق
رمضان.. لله دَرُّهُ من اسم تتراقصُ على نبض حروفه القلوب.. موسمُ الخيراتِ والبركات.. محطةُ الوقودِ النورانيّةِ التي تُغذّي الأرواحَ كل عام.. فيخرج الإنسانُ منها وقد عانق الارتقاء.. وكأنه يلثمُ عنقَ السماء.. ويسمو!
في هذا الشهر المبارك.. يمتطي المسلم صهوةَ جوادِ الهمّة ليتقرّب إلى الله جل وعلا بالعبادات والطاعات والأذكار.. فتراه في همٍّ إن ضيّع وقتاً كان الأحرى أن يذكر اللهَ جل وعلا فيه.. أو انشغل بعَرَضِ الدنيا الزائل عن قيام أو تبتّل.. وتجده بفضل ربه جل وعلا ورحمتِه ومَنِّه في سعيٍ حثيث ليُرضي الله جل في علاه..
ولكن.. من قال أنّ الطاعات هي فقط تسبيحٌ وذكرٌ وتلاوةٌ وسجود؟ وكيف للمرء أن يختصرَ كُنهَ العبادةِ الواسع في علاقة العبد بربه جل وعلا؟ فهناك علاقاتُ هذا الإنسانِ مع البشر.. كلِ البشر.. والدِّين المعاملة!
ولعل من أهمّ السبل للتقرب إلى الله جل وعلا في هذا الشهر أن يعمل الوالدان على ترسيخ معاني الطاعة والعبادة في نفوس أبنائهم.. الأطفال منهم والمراهقين.. ليشبّوا وقد عانقت قلوبهم معاني الإخلاص والتوكّل على الله جل وعلا ومراقبته في السر والعلن.. وليرتبطوا بهذا الدّين العظيم فيكونوا الرواحل التي تُعيد بريقاً فقدناه لخلافةٍ طال الحنين لها..
لطالما تساءلت.. كلما طُرِح موضوع المراهقة وثورتها لِم مراهقة الأبناء والبنات في هذا العصر مختلفة جذرياً عن تلك التي عاشها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.. كيف استطاع أسامة بن زيد أن يقود جيشاً فيه كبار الصحابة وهو “مراهق” بينما علينا اليوم أن نتقبّل عدم مسؤولية “المراهق” لأنه يمر بتغيير فيزيولوجي ما يجعله “خارج نطاق التغطية”!!
البعض يبرّر أن جيل الصحابة مختلف.. هو ذاك.. ولكن القضية تتعدّى أبعادها اختلاف شخصيات.. بل هي اختلاف نمطية التربية والتعاطي والنظرة لهذا المراهق.. تُرى هل يبقى لنا كأهل عذر حين نسلّم أبناءنا وبناتنا لفضائيات تسمّم وشبكة عنكبوتية تحوي المآسي ولغزو فكري وعولمة تفسد.. وقد يكون الأهل أنفسهم قد تلوّثوا بإشعاعات كل ما سبق.. فبات مراهقونا كمراهقي غيرنا.. ولا عجب إن استوينا في المصادر اليوم وضيّعنا الأصل فيها!
ثم بعضهم يتساءل.. كيف نغرس الطاعة في قلوب هؤلاء المراهقين وهم يتعرّضون لكل هذه المغريات وكيف نغتنم شهر رمضان المبارك لنربطهم بالله جل وعلا..
لا شك أن للطاعة أثراً في النفس البشرية في أي مرحلة كان الإنسان يمر بها.. طفولة أم مراهقة أم بلوغ ورشد.. فهي تليّن القلب وتقرّب من الرب جل وعلا وتهذّب السلوك وتروّض النفس وترتقي بالأخلاق وتصحِّح مسار المسلم في أي الدروب مشى..
وللمراهقة خصوصية في التعامل، إذ أن المراهق يمر بمرحلة تغيير كبير من الناحية النفسية والجسدية.. وعلى الأهل مراعاة هذا الوضع، والتعاطي مع أبنائهم وبناتهم المراهقين بطريقة شفافة ومدروسة، لئلا يخسروا العلاقة معهم، فيتوجّه حينها المراهق إلى خارج الأسرة للتفتيش عن الحنان والعناية والاهتمام والإشباع العاطفي!
فمن الفطنة اغتنام الأهل مواسم الطاعات، كشهر رمضان المبارك، ليزرعوا في أبنائهم وبناتهم المراهقين معاني الطاعة، ولربطهم بالله جل وعلا ومراقبته في السر والعلن.. فحين يتربّى المسلم على حب الله جل وعلا وتتجذر في نفسه القِيم الإسلامية ومعاني الإسلام العظيم، سيصبح طيِّعاً ليّناً قريباً من الله تعالى، باراً بوالديه، حريصاً على معاملة الآخرين برقيّ، بعيداً عن كل ما من شأنه أن يقطع هذه العلاقة المباركة مع الله جل وعلا..
والطاعة تُضعِف نوازع الشر في النفس، وتُحصِّن من الفساد، فيصلح حال المسلم، ويشعر بالطمأنينة والسكينة في جنب الله جل وعلا.. وعلى الأهل معاملة المراهقين بأسلوب ليّن واعتماد الحب والحوار والتقدير كأسس في التعامل.. ولترسيخ معاني الطاعة وكنهها العميق.. فهي ليست فقط طقوس وشعائر فارغة من أي روح ومعنى، وإنما لها أثرها في النفس والقلب، وتورث تقوى الجليل والخشية منه جل وعلا.. إذ هو خوف ورجاء ومحبة.. يصل القلب فيهزّه هزّاً..
ولا بد من بناء علاقة متينة مع المراهق.. وتنميتها والمحافظة عليها ورعايتها بكل ما أوتي الأهل من قوة وحرص.. وإخبار المراهق عن مدى اهتمامهم به وفخرهم بإنجازاته وثقتهم بقدراته وتقديرهم الإيجابي لذاته..
ولا ننسى نقطة القدوة الحسنة.. فمهما حاول الأهل إيصال المفاهيم إلى المراهقين عن طريق النصائح والكلام، إلا ان الأفعال المناقضة لهذه المفاهيم قد تنسف أيّ محاولة منهم لترسيخها.. فلا بد من إيجاد القدوة الحسنة التي تتكلم بالأفعال الصحيحة لا بالكلمات فقط.. ومن المعلوم أن المراهق يكره النصائح المتكررة والتوجيهات الصادرة عن الأهل، ويعتبرها دستوراً مفروضاً عليه فينفر منها ويثور عليها.. في حين أنه يرضخ ويطيع إن شعر أنه محترم في بيته، مقدَّر في أسرته هادئ في حياته.. ولذلك يمكن للأهل استعمال الأساليب العَرَضية والتوجيهات العفوية التي تُعطى بطريق غير مباشرة..
ونقطة هامة.. كلما عمل الأهل على تزكية نفس الأبناء والبنات في الصِغر بالأساليب التربوية المبتكرة، كلما سهل عليهم إحاطتهم في سِن المراهقة.. فمما لا شك فيه أنه كلما ابتدأت هذه العملية باكراً كلما كانت استقامة المرء على الطاعة في طريق الحق أمتَن وأثبت في مراحل متقدِّمة.. على أن يحرص الأهل أن لا يكون التزام الأبناء مجرد تقليد لهم، وإنما عن عقيدة صلبة والتزام ثابت، بعد تفكّر وتأمّل وغرس نديّ..
ومن الأفكار العمليّة أن يصحب الوالد ابنه إلى المسجد لأداء الصلوات، ودعوته إلى ذلك بطريقة محبّبة، كأن يقول له: “أنت رفيقي في هذه الحياة وقد وعيت وسأتّخذك صاحباً”.. وحين يكون الأب يمارس هذه الفكرة عملياً بأن يصحب ابنه معه في جلساته مع أصحابه أو في نزهات ينفرد فيها معه.. فيكلّمه في همومه ومشاكله ويُشرِكه في أخذ القرارات –ولو في الأمور الصغيرة- فسيشعر الابن أنه صاحبٌ فعلاً، وسيطيع أباه فيما يطلبه منه وهو سعيد.. وكذلك الأم.. تتعامل مع ابنتها على أنها صديقتها..
ويمكن اعتماد الهدايا بداية رمضان.. مصحف وسجادة صلاة معطّرة.. وكتب جذّابة.. لحثّ الأبناء على الطاعة ومشاركتهم بها..
ومن الممكن أن يقترح الابن –أو البنت- في جلسة “صفا” مع الأهل نوعاً معيّناً من الطاعات يحبونها.. فبذلك يؤدون هذه الطاعات وهم لها راغبون.. وكذلك يمكن أن يتشاركوا في قراءة كتاب تزكية أو السيرة النبوية أو قصص الصحابة والسلف الصالح، ثم يتناقشون فيها ويحاولون اقتباس المفاهيم التي عاش بها هؤلاء الصالحين، ليُسقِطوها على حياتهم الشخصيّة، والإطّلاع على عباداتهم ليقتدوا.. ولا شك أن في المنهل الأساس خيراً كثيراً، فيمكنهم الاجتماع على مائدة القرآن، ويقوم الأبناء أنفسهم بتفسير الآيات، أو الوقوف كإمام في الصلوات، ما يُعطيهم الثقة بأنفسهم، والرغبة في الاستزادة من الطاعات المشتركة بينهم وبين الأهل..
هذا ويجب أن لا يركّز الأهل فقط على الايمانيات والأمور التعبّدية المتمثِّلة في الصيام والصلاة والذكر وغيرها، وإنما عليهم التركيز أيضاً على السلوكيات، فالدِّين المعاملة.. وعلى أعمال القلوب من رضا ومحبة ويقين وإخلاص وتوكّل..
ثم إن الأهل عليهم ألا يثوروا ولايغضبوا إن قصّر الأبناء في الطاعات، بل عليهم تفهّم مشاعر الأبناء ورغباتهم والاصطبار عليهم.. فالمراهق قد يملّ وتفتر همّته، فحينها يجب إيجاد سبل ناجعة لإعادة الحياة للقلوب، عبر وسائل خاصة يحبها الأبناء، والأهل أدرى بما يصلح مع أبنائهم وما يحبون.. وليتذكّروا دائماً أن السلوك الخاطئ هو ما نرفض وليس الشخصية!
وباختصار.. حين يزرع الأهل منذ الصِغر حب الله جل وعلا وتقواه في قلوب أبنائهم، فسيسهل عليهم بعد ذلك التعاطي معهم بمفردات الطاعة والعبادة والسلوك الحسن.. وعليهم انتهاج الحوار والتخاطب العقلي والحب كأسس ثابتة في العلاقة معهم كمراهقين حين يشبّون عن الطود، فبالحب تسهل التربية والتوجيه والإرشاد..
فلنحرص على تربية هذا المراهق كما علّمنا الإسلام.. ولنخبره أنّه سياج الدِّين ومشروع النهضة.. وأنه حفيد أسامة بن زيد ومصعب بن عمير.. وأنه الجيل الربّاني الموعود الذي سيُعيد للأمّة مجدها! ولننظر بعدها.. هل يستقيم؟!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة