حركاتنا الإسلامية والحاجة إلى التجديد
ما زال مصطلح "تجديد الخطاب الديني" من المصطلحات المختلف عليها والمشكوك بأمرها بين العلماء والدعاة والمصلحين المسلمين، وهذا الموقف له ملابساته ومبرراته؛ إذ كان وما زال مطلب ما عُرفوا بـ "التنويريين" و"الحداثيين" وسائر المتأثرين بالطروحات الغربية الذين يهدفون منه إلى تحريف الدين! ولكن، ماذا يضيرنا لو استفدنا من هذا المصطلح إذا جعلنا تحقيق مقصِد الإسلام الهدف من مفهوم التجديد؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها "رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين. أجل "يجدّد" ليس بمعنى تغيير معالم الدين، وليس بهدف تفصيله ليتواءم مع صاحب كل هوى، أو ليصبح مقبولاً لدى الغرب، أو بدعوى التماشي مع الواقع دون مستند شرعي... وإنما تجديده في نفوس أتباعه، وتمكينهم من تبليغه للناس كافة ليحققوا شرطي الاستخلاف والقيادة العالمية، وهذا يتطلب:
أولاً: الانطلاق من منهجية علمية وأسس واضحة لإعادة إحياء أصول ومقاصد الدين وتفعيلها في حياة الناس من جديد، وإعادة النظر في الأحكام القابلة للاجتهاد متى ما توفرت مسوّغات ذلك. ثانياً: التجديد في الوسائل والأساليب، والأمر فيه سَعة طالما يدخل ضمن الوسائل المشروعة.. وهو أكثر ما تحتاجه حركاتنا الإسلامية اليوم، ما يمكِّنهم من إيصاله لغيرهم، عملاً بالقاعدة الربانية: (ادعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة).. فالحكمة تتجلى في عصرنا بالاستفادة من وسائله، وفي ترتيب أولويات خطابنا، والتدرج مع المدعوين بحسب مستوياتهم، وبمخاطبة الناس بما يعرفون.. فلماذا الخوف إذاً والمصطلح له أصله في ديننا؟ وللتجديد في عصرنا دواعيه وضوابطه وأساليبه المعتبرة شرعاً ليست المقالة محل ذكرها. وعليه، فيما يأتي شواهد مما نحن بحاجة لتجديده، وقد جعلتُ بعض حركاتنا الإسلامية في لبنان نموذجاً أستلهم منه ما يدفعنا باتجاه تغيير بعض أنماط تفكيرنا وأساليبنا ووسائلنا في تقديم رسالة الإسلام العظيم. بداية، يُشهد للحركة الإسلامية المعاصرة استجابتها بشكل عام للمتغيرات، والمراقب على مدى 20 عاماً يلاحظ كيف مرت الحركة الإسلامية بمراحل من التطور في خطابها تبعاً للمستجدات، من ذلك:
1. استفادتها بشكل جيد من وسائل التواصل.
2. التنويع في أساليب تنظيم الأنشطة العامة.
3. انفتاح المكونات الإسلامية على بعضها بشكل لم نعهده من قبل، وإن كان يحتاج للمزيد من التفعيل، فإن كان الأعداء يجتمعون على اختلاف قلوبهم ومذاهبهم ويشكّلون "اللوبيات" لتحقيق مصالحهم.. فأهل الحق أوْلى بذلك. والخير في جمعياتنا كثير، ليس موضع مناقشته هنا.
ورغم ذلك بقيت هناك جوانب قصور وجمود في أدائها:
1. حتى الآن لم تستطع الحركة الإسلامية على امتداد ساحاتها أن تؤسس فضائية بمواصفات عالمية تمثلها.. ومعلوم أن الذي يمتلك الإعلام.. فإنه يمتلك العقول والقلوب.. ففي الوقت الذي يُفتح المجال فيه لأصحاب التيارات الفكرية المنحرفة ليسوِّقوا لأفكارهم، ما زال الخطاب الإسلامي قاصراً عن الوصول إلى الناس (في الداخل والخارج) بالطريقة المؤثرة التي توازي الخطاب الآخر بل تتفوق عليه.
2. ما زلنا نسمع أنفسَنا ونخاطب أنفسَنا.. ويشهد لذلك نوعية جمهور الحركات الإسلامية في الأنشطة العامة.. رغم المحاولات الجادة لإخراج هذه المناشط بأساليب وأشكال متنوعة تستهدف جذب غير المتدينين فضلاً عن غير المسلمين. وهذا يدعو للتوقف وللدراسة والتأمل ليس كل جمعية على حِدة وإنما يشمل جميع مكونات العمل الإسلامي.
3. ضعف التغلغل في النسيج الاجتماعي، وبالتالي ضعف التواصل مع مؤسسات المجتمع ومع الشخصيات المؤثرة فيه.. حتى الآن نحن لم نستطع تعريف الآخر بنا ليسمع منا لا عنّا.. فغالباً هناك صورة مسبقة عن "المتديّنين" مأخوذة من وسائل الإعلام وممن تصدِّرهم باعتبارهم النخب المثقفة.
4. ما زلنا ندور ضمن دائرة ردود الأفعال.. عاجزين عن صناعة الفعل وتصديره.. والشواهد كثيرة!
5. رغم استفادة الحركات الإسلامية من تنوع قوالب ووسائل الدعوة، إلا أن الخطاب بقي متجهاً بشكل عام من الأعلى للأسفل.. فقليلة هي حلقات الحوار والنقاش التي تعتمد على الجهد الفردي في البحث والتقصي والوصول إلى الحقائق وامتلاك أدلتها ثم مناقشتها مع العلماء من كل اختصاص...
6. ضعف الجانب التخصصي، خاصة في مجال العلوم الإنسانية.. وبالتالي توكيل المهمات الحيوية لغير المتخصصين، بالطبع تبقى هناك اعتبارات التميز والخبرة والتحصيل الشخصي لغير أصحاب الاختصاص..
7. ما زالت تُدار كثير من مؤسساتنا بالعقلية الدعوية؛ فلا قوانين معتمدة تحكم العمل المؤسسي إلا فيما ندر، وإنما الأمر قائم على استنساب الرئيس في هذه الجمعية أو تلك.. وهذا يقودني للحديث عن واقع "حكم الفرد" الذي يحكم بكل الأمور وعنده تنتهي، في العمل الدعوي والمؤسسي على السواء.. والحديث في هذا ذو شجون!
8. العقلية الحزبية.. رغم تقلّص مساحتها مؤخراً؛ إلا أنها لدى البعض ما زالت موجودة، وتبرز أحياناً في الأعمال المشتركة بين الجمعيات بطريقة أو بأخرى؛ فهذا مما ينبغي التخلص منه، إذ لا يليق بالمسلمين أن تحكم بعض أعمالهم هذه العقلية الضيقة؛ بحيث تتقلّص في حسّهم المصلحة العامة لتصبح بحجم مصالحهم الخاصة!
9. ما زال البعض منا حتى الآن لم يُعِد النظر في بعض اختياراته الفقهية بما لا يتخطى النص، وبما يفتح في الوقت نفسه أفق الانسجام أكثر مع ما يحتّمه الواقع، وييسّر الكثير من الأعمال؛ ولعل في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة أساسية للانطلاق: "ما خُيّر النبيّ بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً" متفق عليه.
10. حتى الآن لم تصدر تأصيلات شرعية تترتب عليها مواقف واضحة موحدة أو متقاربة حول عدد من القضايا المعاصرة، من ذلك التعامل مع الغرب في مسألة الإرهاب والإرهاب المضاد، داعش والحملة الدولية عليها.. وغيرهما.. مما يزيد في حيرة وضياع الكثير من شباب المسلمين.
11. نظرية البيئة المعقمة: الأصل بالمسلم أن يحيط نفسه بصحبة صالحة وبيئة ملائمة تعينه على طاعة الله وعلى تحقيق مراده تعالى من الاستخلاف في الأرض.. والحركات الإسلامية عموماً وفرت مثل هذه البيئة التي أسميها "معقمة" إذ تشكل جانب الأمان للملتزم، وتمنحه شعوراً بالنقاء في مجتمع عكّرت صفوَه أشكال الفساد.. ولكن أعتقد أنه من الضرورة فتح الأبواب، لا النوافذ فقط، والتعرض للفيروسات التي تعطينا المناعة اللازمة لنعيش المجتمع بكل تفاصيله، ولمشاركته همومه والتصدي لقضاياه، والأهم من هذا كله لنكسر الحواجز ونذيب الجليد بين المسلم المتدين "الإسلامي" وبين المسلم غير المتدين.. ثم بينه وبين غير المسلم.
هذه بعض الأمثلة من معايشة ومراقبة ونظر وتأمل شخصي، ولعلنا لو وسّعنا نطاق النقاش والمشاورات، لاستخرجنا المزيد، أو صوّبنا وعدّلنا.. والأمر بالمحصّلة قابل للنقاش.. فليس بالكثير - في سياق البحث عن الأفضل لديننا - أن نجتهد ونسعى ونتقارب ونختلف حتى نصل إلى ما نصبو إليه. وأختم بقول أعجبني للدكتور عبد الكريم بكار يلخص حاجتنا إلى التجديد، حيث يقول: المصلح والداعية والسياسي المسلم في حاجة إلى نوعين من الفقه: - الفقه الأول: فقه بالمنهج الرباني اﻷقوم، وهذا يقوم على الفهم العميق للواجبات الشرعية والمحرمات والمنهيات كما يقوم على الفهم لمقاصد الشريعة وغاياتها الكبرى -
الفقه الثاني: هو فقه الحركة بالمنهج الرباني؛ أي معرفة ما يساعد على نشره وتحبيبه للناس والتمكين له في اهتماماتهم وتطلعاتهم والتمكين له في نظم الحياة كافة. فقه الحركة بالمنهج الرباني.. هذا هو الاختبار الحقيقي لحمَلة رسالة الإسلام.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة