التسويق الإعلاميّ
بقلم: الإعلاميّ بشار غنام*
الأردن
يذهب الناس إلى السوق لشراء عبوات فارغة، لكنها جميلة وملونة وتحمل الصور وكل المحفزات التسويقية التي تبرمجت عقولهم على ملاحقتها، ومع أنهم يعلمون أنها فارغة عملياً، لكنهم يقفون في طوابير ويدفعون ثمنها الباهظ ويخرجون حامليها بفرح! ليس هذا محض خيال، بل إنه يحدث كثيراً بفضل كهنة التسويق!
امتدت شهية المسوقين إلى كل شيء حتى إلى الوعي نفسه، الذي يعملون على تحويله إلى سلعة؛ فَبِما أن الوعي هو ما يدفع صاحبه لقرار الشراء، أصبحتْ هناك صناعة تستهدف تسليع الوعي!
هذا ما يحدث عندما تصبح التجارة مبنية على التسويق، حيث الشكل فقط هو المهم - وربما يكون ليس له علاقة بمضمون السلعة وحقيقتها - ويصبح الإعلام أداة لمراكمة الثروات الجشعة، وما على أرباب هذه الصناعة إلا أن يُغرقوا الإعلام بسيل الدعاية لمنتَجٍ ما مهما كان سخيفاً أو عديم الفائدة ويتركوا الباقي للعقل الباطن.. ليخاطب بعدها أحدنا نفسه فيقول: لا بد أنها سلعة جيدة؛ ففيها كل هذه الألوان الجذابة والأجواء البهيجة.. والناس يبدون سُعداء وهم يحصلون عليها في الإعلان .. لا بد أنها جيدة!
من البديهي أن يشتري المرء السلعة بناء على مزاياها الحقيقية وليس بناء على «البروباغاندا» الجارفة حول السلعة!
ماذا لو أنك وصلت إلى بائع الخبز الذي على ناصية شارعكم ووجدته قد ملأ واجهة مخبزه بالدعايات والإعلانات الملونة والمتحركة، ومع كيس خبز «فاخر» أهداك مجموعة نكهات ومكمّلات.. وقطعة بلاستيك صغيرة تنبعث منها رائحة غريبة .. وقال لك وهو يبتسم بخبث: «رائحة جميلة.. أليس كذلك؟.. إنه الخبز الإلكتروني.. منتجنا الجديد! وسياستنا الجديدة في البيع أنك لا تستطيع أن تشتري خبزك اليومي إلا مع هذا العرض التسويقي كاملاً!» – وهكذا تم الاتفاق بين اتحاد صانعي الخبز بالشراكة مع الإعلام والقضاء وبمباركة عمدة المدينة!... ثم طلب منك خمسة عشر ضعف السعر المعتاد.. ستعتبره جَشِعاً ومخادعاً، أليس كذلك؟! مهلاً عزيزي.. إنهم يفعلون بك أكثر من ذلك.. مع فارق بسيط.. أن الخبز هو شيء حقيقي له فائدة!
أيُّ خداعٍ هذا الذي نروّج له بأيدينا عندما ندرّس أبناءنا في كليات الاقتصاد نظريةً تقول إنه إذا كان لديك 10 دولارات فاصرف 9 منها على التسويق ودولاراً على صناعة السلعة ذاتها؟!! إن قيمة السلعة نابعة من مزاياها الحقيقية ومن فائدتها وليس من قوة الحملة الإعلامية التي تصاحبها ودفقات التسويق التي يمكنها أن تشيطن الجيد أو ترفع من السيء.
إن كانت هناك وظيفة بحاجة لإعادة نظر جذرية فهي وظيفة التسويق، فموظف التسويق يُعتبر ساذَجاً أو جاهلاً بـ «الصنعة» إن أشار إلى سلبيات سلعته، حتى لو ألح عليه الزبون بسؤال حولها؛ وليته يقف عند تعداد مزايا سلعته وإخفاء عيوبها، فصناعة التسويق اليوم تكاد تكون قائمة بشكل كامل على التضليل، ويتناسى عاملوها أن أنصاف الحقائق تكون أحياناً أسوأ من أسوأ الأكاذيب، ومقابل الفتات الذي يتلقفونه ساقطاً من موائد الرأسماليين الكبار فإنهم ببساطة يكذبون، وتكاد تكون هذه هي الحالة الوحيدة التي يتسامح فيها المجتمع مع الكذب، لا بل ويتعاطاه ويصفق له ويسير في ركبه مثل طابور من المخدَّرين.
يخالف العاملون بالدعاية والإعلان القيم الأساسية التي تُعَدّ لبّ العقد الاجتماعي في أي مجتمع، فلا يجوز أن تراكم فئة ما ثرواتها عن طريق خداع وسرقة الآخرين، حتى لو كانت «سرقة أنيقة».
في الغرب حاولت المجتمعات التنبه لذلك عبر إنشاء منظمات مدنية تحاول التخفيف من سطوة (إعلام بيع الأوهام) المسمى دعاية وإعلاناً، لكن البَوْن ما زال كبيراً بين سطوة هذه الصناعة وطاقة هذه المبادرات على المجابهة. وهناك مواثيق تحاول ضبط معيار أخلاقي ينظم عمل الإعلام الدعائي حتى لا يكون آلة خداع...
أما في أوطاننا.. فلا عزاء لمن يؤجّر عقله لِكَهَنة الدعاية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إعلامي متخصِّص في الإنتاج والإخراج.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة