كاتبة وفقيهة سورية مقيمة في الأحساء، دكتوراه في أصول الفقه، ومستشارة علاقات زوجية.
تاءات القِيَم التثبيت مع التطبيق والتعزيز
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقاً، وَلا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّاباً) أخرجه أحمد في مسنده.
لاشك أن مرحلة التوعية بالقيم مهمة لبنائها، لكن المرحلة الأهم - وهي الغاية من بناء القيم - هي تحول القيم إلى سلوك ثابت محصن، وهذا أمل كل داعية ومربٍّ.
مرحلة التثبيت:
تبدأ مرحلة التوعية منذ الولادة و تتشابك معها مرحلة التثبيت بعد السنة الرابعة من عمر الطفل، حيث يبدأ الوعي بالذات.
يحتاج الفرد في مرحلة التثبيت إلى المعايشة العملية لقدوة ونموذج عملي من المربي في إطار من التأصيل الشرعي بالآيات والأحاديث والمواقف المتنوعة من السيرة والقصص الواقعية (تاريخية وحديثة) التي تكشف وتؤكد كافة الحقائق المتعلقة بالقيمة ومجالات تطبيقها وصور الانحراف في تطبيقها وكيفية معالجتها.
كما تبرز الحاجة إلى إيجاد برهنة عقلية موضوعية عالمية وذلك بالحوار والمناقشة الحرة المفتوحة التي تمنح الفرد الحرية الكاملة، والسؤال والاستفسارات وعرض تصوراته وآرائه ومقترحاته.
ومن أهم الأدوات لتثبيت القيمة: تفعيل الأحداث الحالية الواقعية بالتعليق عليها ومناقشتها وإبداء الآراء والتصورات حولها وتوظيف المناسبات الزمنية، فدخول الأشهر الحرم مناسب تماماً لدعم قيم التسامح والتراحم والعفو، وموسم الحج مناسب لترسيخ قيم التفاضل بالتقوى والوحدة والتعاون والزهد والتواضع، وأحداث تساعد في دعم قيم القوة والعزة والجهاد ونصرة المظلوم والدفاع عنه والإعداد البدني والعلمي والحضاري للأمة.
ومؤشرات نجاح هذه المرحلة تتخلص في:
1. تكوين تصورات واضحة وصحيحة وكاملة عن القيمة تتضح في آراء الفرد وتعليقاته المختلفة حول القيمة.
2. المسارعة إلى التمسك بالقيمة والاجتهاد في تطبيقها.
3. قلة أو عدم وجود انحرافات أثناء التطبيق.
4. سرعة الاستجابة للتوجيه والتصويب.
5. التعاون مع الآخرين في تصحيح وتعميق المفاهيم الخاصة بالقيمة.
مرحلة التطبيق
ويقصد به: الممارسة الحقيقية للقيمة في مجال المشاعر والأحاسيس والأفكار والاهتمامات والألفاظ والكلمات والسلوكيات العملية، وهي مرحلة مهمة تحتاج إلى قدر كبير من الجهد من خلال التدريب والتوجيه والتصويب.
وتظهر في هذه المرحلة الحاجة إلى القدوة وتوفير بيئة مساعدة، كما قال تعالى (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (التوبة: 119)، مما يعين على معايشة القيمة كحال دائم.
إن انخراط المربي مع الأفراد يؤثر تأثيراً عميقاً وحقيقياً، فقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعطي العطاء للأعرابي ويحسن إليه فيقول الأعرابي: لا أحسنت ولا أجملت!!، فزاده زيادة أخرى ثم سأله: "هل أحسنت إليك أيها الأعرابي؟" فيقول: جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، ولما علم أنه رضي، قال صلى الله عليه وسلم: "إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي منك شيء فإن شئت فقل بين أيديهم ما قلته الآن"؛ فلما كان الغداة" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه إن هذا الأعرابي أعطيناه بالأمس فغضب وزدناه اليوم فزعم أنه رضي أليس كذلك؟ قال الرجل: نعم، جزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه: "إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة، فشردت عليه، فاتّبعها الناس فلم يزيدوها إلاَّ نفوراً فقال لهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها وأعلم بها، فتوجه إليها صاحب الناقة فأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار) رواه البزار.
هكذا بنى النبي صلى الله عليه وسلم قيمة الرحمة بالخلق والشفقة عليهم والدعوة إلى الله.
وأداة المربي في هذا: المتابعة المباشرة وغير المباشرة مع التزام منهج التدرج والترقي، وأنصح في هذا السياق باستخدام خطة شهرية ثم أسبوعية ثم يومية وينبغي التدرج نحو الرقابة الذاتية.
كما أنصح بتجزئة القيمة إلى عناصر والتدريب على كل عنصر خلال فترة زمنية، ويمكن التنويع في الوسائل من زيارة ومشاريع فمشروع كفالة أيتام أو زيارة لمرضى في مستشفى لها أثر كبير في بناء قيم التعاون والتكافل وإحياء مفهوم الأمة.
ومن مؤشرات نجاح هذه المرحلة: الاستجابة السريعة للتصحيح والتوجيه مع التقدم المستمر في مستوى تنفيذ القيمة والتفاعل مع المشاريع التي تتم، بل... واقتراح بدائل متنوعة، والذاتية في تطبيق القيمة.
مرحلة التعزيز
وقمة هذه المرحلة تتوَّج ببلوغ الفرد مرحلة القدوة، ويكون التعزيز بالترغيب والترهيب كما يكون التعزيز إيجابياً بالتكريم والثناء المادي والمعنوي ويكون سلبياً بالمحاسبة وتحميل المسؤولية.
يتم في هذه المرحلة تحقيق عناصر ثلاثة: تعميق الفهم وتجويد التطبيق ودعم الذاتية؛ فمع تكرار الممارسة تنكشف: حقائق القيمة وجوانبها ومعوقات تنفيذها، ويكتسب الفرد مهارات التغلب على المعوقات، ومع التصويب المستمر يرتقى الفهم ويغدو التطبيق في السر والعلن وفي كافة الأماكن والأوقات والظروف، ويظهر الانتماء للقيمة وحبها والدفاع عنها، والالتزام بها ذاتياً دون رقابة وسلطة خارجية.
مؤشرات نجاح هذه المرحلة:
الممارسة الذاتية وتقديم القدوة في ممارسة القيمةوالإحساس بالانتماء إلى القيمة، ومن ثَم دعوة الآخرين إليها والحرص على التعاون مع الآخرين وتدريبهم على ممارسة هذه القيمة، وتقديم ما لديه من معارف وخبرات ومهارات في تطبيق هذه القيمة.
بهذا نكون قد بنينا صفاً ثانياً ناهضاً بالقيم، داعياً إليها، مؤمناً بها، محصناً ضد ما يخالفها، وهي أولى خطوات تحقيق الترقي الحضاري.
وكما قال مالك بن نبي رحمه الله: إن حركة التاريخ إنما تصنعها آلاف الجهود الصغيرة التي لا نلقي لها بالاً.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة