مَن سيُحرِّر الأقصى؟
مشهد الشعوب وهي تهب - على استحياء - نُصرةً للأقصى ودفاعاً عن المقدسات يؤكد على أنّ فطرة الإسلام كامنة في أعماق كل مسلم مهما شوّهتها الأيادي وحاولت طمس معالمها، فإذا ما حرّكتها الأحداث قامت وانتفضت.. ولكن، إلى متى ستبقى الأحداث التي يختلقها الآخرون هي المتحكّم الأساس في حركة الشعوب الإسلامية؟ لماذا لا تصنع الأحداثَ بنفسها وفق استراتيجية إسلامية شاملة مستوعبة لكل أهداف ومصالح الأمة، مبرمجة وفق آليات عمل لا يتوقف إلا وقد رُفعت راية الإسلام عالية خفّاقة؟
فهل يعتقد عاقل أنّ ضم المسجد الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح للآثار اليهودية، ثم بناء كنيس الخراب، أو «أوها حوربة» بالعبرية، على بُعد عشرات الأمتار من المسجد الأقصى وجعله يحاكي في بنائه قبة الصخرة تمهيداً لهدم الأقصى وبناء هيكل سليمان المزعوم... أنّ كل ذلك حصل فجأة وفق ردّة فعل صهيونية؟ أم إن لدى القوم مراكز بحوث وَضعت وتضع منذ عقودٍ الخُططَ المدروسة المُحكَمة التي تُحَوَّل إلى المؤسسات المَعنية لتنفيذها بغضّ النظر عن تغيّر الأحداث وتبدّل السياسات؟
هؤلاء لا يتطلّعون إلا إلى تحقيق مصالح كيانهم العليا - دولةً وشعباً ومؤسسات، في حين أنّ المُمسكين برقاب أبناء هذه الأمة همّهم الأوحد: الكرسي، وكم ضيّع هذا الكرسي من مصالح، وكم غيّب ويغيّب الأمة عن موقع الشهادة: (لتكونوا شهداء على الناس...)، وكم أُزهقت بسببه من أرواح لأبرياء من المسلمين... هذه الأرواح التي هي أغلى من الأقصى ومن الكعبة ذاتها زادها الله تشريفاً؛ روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: رأيتُ رسول الله (ص) يطوف بالكعبة ويقول: «ما أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! ما أَعظَمكِ وأعظمَ حُرمَتَكِ! والذي نفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ المؤمنِ أعظمُ عند اللهِ حُرْمَةً منكِ: مالِهِ ودَمِهِ، وأنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْراً».
فإذا كانت المذابح تُرتكب بالمسلمين إنْ على أيدي أصحاب الكراسي أو على أيدي أصدقائهم من الصهاينة والصليبيين، ولا يتداعَوْن لحفظ مياه وجوههم الكالحة من شؤم الخيانات وأوزار المؤامرات وثِقلها... فأنّى لهم الالتفات إلى ما يهدَّد به الأقصى من تدمير طالما أنهم شركاء فيه؟
وحقيقةً لا أجد قولاً يصفع هؤلاء أفضل مما قاله الشهيد بإذن الله الشيخ أحمد ياسين، الذي اغتالته الأيادي الآثمة في 22 آذار من عام 2004 وهو خارج من صلاة الفجر في المسجد، مخاطباً العرب:
«إنني أنا الشيخ العجوز، لا أرفع قلماً ولا سلاحاً بيديّ الميْتَتَيْن... أنا ذو الشيبة البيضاء والعمر الأخير. أنا مَن هدّته الأمراض وعصفتْ به ابتلاءات الزمان!! كل ما عندي أنني أردتُ أن يكتب أمثالي كل ما جعله العرب في أنفسهم من ضَعف وعجز! أحقاً هكذا أنتم أيها العرب صامتون عاجزون أو أموات هالكون؟! ألم تعد تنتفض قلوبكم لمرأى المأساة الوجيعة التي تَحِلُّ بنا؟!...».
وإنْ عَجِبنا، فإنَّ عجَبَنا لا ينقضي ممن يحرسون الكراسي وأصحابها: كيف يَطيب عَيْشهم وأمتهم من تراجع إلى آخر ومن نكبة إلى نكبات وفي أيديهم أسباب القوة التي بها تُنتَزع الحقوق وتُحمى الديار والأعراض، والأهم أنّ بها تُحرَس العقيدة: منهجُ الله الواحد: «إنّ اللهَ لَيَزَعُ - أي يردع - بالسُّلطان ما لا يزَع بالقرآن»؟ كيف يَطيب لهم مقام وهم يُساقون مع عُدَدِهم وعَتادهم وعديدهم كالقطيع يتوجَّه بهم الراعي حيث شاء دون إرادة أو قدرة على فِعلٍ مغايِر يُنبئ عن إرادات عصية على الانكسار؟!
وعَجَبُنا لا ينتهي أيضاً من أُناسٍ قادهم تفكيرهم الحر لمواقف إنسانية مشرِّفة رغم أنهم ليسوا من بني أمتنا، اقرؤوا إن شئتم معي هذا الخبر:
أرسلتْ سفارة «إسرائيل» في اليونان إلى عضو البرلمان اليوناني (تيودور بانجاليس) ثلاث قناني من النبيذ بمناسبة الأعياد، مع تمنيات السفير الإسرائيلي علي غياشي. ولكن (تيودور بانجاليس) أعاد الهدية وشكر السفير مع الرسالة الآتية:
«أشكرك على القناني الثلاث من النبيذ التي أرسلتها لي بمناسبة الأعياد... للأسف لاحظتُ أن النبيذ المرسَل إليّ هو من إنتاج مرتفعات الجولان. لقد علّموني من صِغري أن لا أسرق ولا أقبل بضاعة مسروقة، لذا لا يمكنني قَبول هذه الهدية وعليّ إعادتُها لك. كما تعلم، فإنّ بلدكم تحتل - بصورة غير شرعية - مرتفعات الجولان التي تعود إلى سوريا... وأضاف: إنّ ما فعلته إسرائيل في غزة ذكّر الشعب اليوناني بفظائع الهولوكوست»*!!
بعد هذا فليذهب المطبِّعون مع الصهاينة من العرب وليَطُمّوا أنفسهم في الوحل، أشرف لهم من تطبيعهم الاقتصادي والسياسي - من تحت الطاولة ومن فوقها - معهم، وأشرف لهم من التنسيق الأمني معهم، ومن استقبالهم بالأحضان والقُبُلات...
ولا ينتهي هذا العجب من جَلَد أهل الباطل في سبيل تحقيق أهدافهم وطموحاتهم، فهذه الإرهابية (غولدا مائير) تقول في مذكراتها: «لم يُقدَّم لنا الاستقلال على طبق من ذهب، بل حصلنا عليه بعد سنين من النزاع والمعارك، ويجب أن ندرك بأنفسنا ومن أخطائنا الثمنَ الغالي للتصميم والعزيمة»، في حين قال عنها (ديفيد بن غوريون) عندما عادت من أمريكا محملة بخمسين مليون دولار بعد حملة تبرعات واسعة قامت بها: «سيقال عند كتابة التاريخ: إن امرأة يهودية أحضرت المال، وهي التي صنعت الدولة».
وبعد، فإنّ المسجد الأقصى قضية وعقيدة قبل أن يكون أرضاً وحجراً وبناءً، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير)، ولقد فتح عمر المدينة المقدسة ليُعلي فيها كلمة الله، وكذلك فعل صلاح الدين عندما حررها من الصليبيين، وللهدف نفسه أبى السلطان عبد الحميد الثاني بيع فلسطين لليهود، وعليه فإننا إذ نحلِّل مواقف المتخاذلين فلا نؤمِّل منهم ولا نعوِّل عليهم ولا يُسعدنا أن يكون لهم شرف المساهمة في تحرير الأرض المباركة لأنهم لا يستحقون، ولأن سمات مَن سيحررها بإذن الله تعالى لا تشبه لا من قريب ولا من بعيد ملامح العمالة البادية على الوجوه، بل إنها سيماء الطاعة لله والوفاء لمنهجه والاعتزاز بالانتماء إليه والاستعلاء بالإيمان به.
وهذه صفات لا تظهر فجأة وإنّما تُربّى الأجيال عليها في جميع المؤسسات والمحاضن التربوية، لينشأ جيل معتز بدينه شامخٌ بعقيدته:
فرفعتُ رأسي إذ بشبلٍ شامخٍ
خَجِلَتْ لفَرْطِ عُلُوِّه الأجرامُ
فسألتُه: مَن أنت؟ قال بعزةٍ:
أنا مسلمٌ وشعاري الإسلامُ
هذا تحديداً وأمثاله مَن سيُخرج الله بهم الأمة من قعر الذِّلة إلى رِفعةِ العزة... العزة بالعبودية لله وحمل رسالة دينه.
وهي صفات لا تخرج إلا من نفوسٍ وطّنت نفسها على التضحيات وصنوف الابتلاءات، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ، أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
فالنصر بإذن الله سيأتي، لأنها سُنّة الله، وتفاؤلنا هذا ينبع من ثقتنا بموعود الله، ولا يكون تفاؤل مع قعود، وإنما يُزهِر إذا ما اقترن بعمل دؤوب وفق منهج الله، وإلا فهو في غير موضعه، بل إنه حَرثٌ في ماء.
ـــــــــــــــــــــــ
* خبر أورده الكاتب فرج شلهوب في صحيفة السبيل الأردنية في مقالة عنوانها: «تيودور اليوناني والساقطون الذين لا ينطقون»، بتاريخ: 28 شباط 2010.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن