الكِبر وأثره على مسيرة الدعوة الإسلامية
اعلمي أختاه –حفظك الله- أن الالتزام بالعمل الدعوي إنما هو شرفٌ لك عظيم ومفخرة تباهين بها قريناتك. فهو امتثال لأمر المولى تعالى الذي أثنى علينا – نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم- فقال (كنتم خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وهو سَيرٌ على خُطا نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم الذي قال: "مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". رواه الإمام مسلم في صحيحه. فمن هذا المنطلق نجد أن السير على نهج الدعوة ليس بالأمر السهل بل إنه يتطلّب منك تضحيات جمّة ويقدم لك عظيم الأجر والثواب بإذنه تعالى. ولعل أبرز متطلّبات هذا العمل: جهاد النفس وكسر شهواتها، وترويضُها على الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، وإلزامُها حب الخير، وعلاجُها من جميع الأمراض القلبية التي تنبعث منها الآفات الخُلُقية. وكل ذلك لكي يستقيم أمر الدعوة إلى الله وِفق النهج الربّاني الحق الذي علّمناه إياه رسولُنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه الذي بُعث ليتمَّم مكارم الأخلاق. وإن من حق الدعوة علينا حمايَتَها من أي شيء من شأنه أن يقوَّض دعائمها – قيد أُنمُلة. ومن الآفات الخطيرة التي من شأنها تهديد مسيرة الدعوة ودَيمومتها: آفة الكِبر التي تتمثل باغترار القيادة والرعية بكثرة الأعداد المتجمّعة حول الحقل الدعوي، أو الإعجاب بل والتشبّت بالرأي وإن كان خاطئاً وعدم الخضوع للحق بغض النظر عن هوية قائله، كما وقد تتمثل بتكبُّر قائد هذه الدعوة على رعيّته، أو باستعلاء الأفراد بعضهم على بعض. فإن كل مغترًّ بدعوته مستكبر على بقية المناهج الأخرى لو يعلم حقيقة هذا الخُلُق ومدى خطورته، ولو يعلم عظيم سخط الله على المتكبر، لو يعلم كل ذلك لأيقن أن دعوته لا تسير في الطريق الصحيح بل إنها تميل عن الحق ميلاً عظيماً. وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تُنذر بالوعيد الأليم لكل من يتكبر على خلق الله، قال تعالى: (سأصرفُ عن آياتي الذين يتكبّرون في الأرض بغير الحق)، وقوله أيضاً: (كذلك يطبعُ الله على كل قلب متكبَّر جبار). وكذلك وردت في السُّنّة النبوية أحاديث تحذّر من خطر الكِبر وعاقبته، قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (أهل النار: كلّ عُتُل جوّاظ مستكبر..." متفق عليه، وقال أيضاً: "يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، قمن نازعني واحداً منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي" رواه الإمام مسلم. والكِبر حقيقة إنما هو خُلُق يحصل للنفس من جرّاء استعلائها على الآخرين وظنّها أنها تفضلهم بدرجات كثيرة. فهو إذاً وِفق هذا الظن عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذا الاعتقاد، وتُسمى أيضاً: عزةً وتعظُماً. لذا فإن الكِبر آفته عظيمة وغائلته هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخَلق، وقلّما ينفك عنه العُباد والزهاد والعلماء فضلاً عن عوامّ الخلق. وكيف لا تعظُم آفته وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقال ذرّة من كِبر" وإنما صار حجاباً دون الجنة، لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة. هذا وإن الكِبر ليندرج تحت درجاتٍ عدّة لن نخوض في بحثها جميعاً، وإنما سنتوقف عند واحدة منها ألا وهي تكبر العلماء وقوّاد الحركات الإسلامية فضلاً عن أفرادها. فالكِبر ينشأ لدى علماء الدين من حيث إنه يتملكّهم شعور العظمة والكمال، إذ أنهم – حسب اعتقادهم – بلغوا من العلم والمعرفة ما لم يبلغه سواهم. فيؤدي بهم هذا الخُلُق إلى ازدراء مَن دونهم من خلق الله تعالى واستصغار شأنهم. هذا من ناحية، ويمنعهم من قَبول الحق والانقياد له من ناحية أخرى، وفي أمثال هؤلاء يقول ربنا جلّ في عُلاه: (وإذا قيلَ له اتقِ الله أخذته العِزّة بالإثم) وفيهم أيضاً يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: "كفى بالرجل إثماً، إذا قيل له: اتق الله، قال: عليك نفسك". ولقد غفل هؤلاء العلماء عن أنّ الكِبر والعزة والعظمة والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر وهو ربنا تبارك وتعالى، وأما العبد الضعيف المملوك العاجز فمن أين يليق بحاله الكِبر مهما علت درجته في الحياة الدنيا؟ وإنما علوّه هذا سيكون عليه وبالاً يوم القيامة إن لم يتقِ الله فيما أعطاه، وأنعم عليه من فضله وحباه. وإذا ما تقلّد هذا العالم قيادة الدعوة الإسلامية وأُمر عليها فإن التكبر يأخذ من قلبه كل مأخذ، ذلك أنه أصبح ذا منصب وجاه، فإن عدم تقبّله للحق بات من طباعه، وإن جنون العظمة أصبح يتملّكه ويستبدّ به، فتراه يتوقع من أفراد دعوته الانقياد الأعمى له، بحيث يصبح الفرد عنده تَبَعاً له مسيراً من قِبَله لا يُقبل منه إلا الخضوع. هذا وإنه ينتظر منهم أن يبدأوه السلام، ويقوموا له ويخدموه، والغالب أنهم يزورونه ولا يزورهم ويعودونه ولا يعودهم، ويستخدم مَن خالطه منهم كأنهم عبيدُه أو أجراؤه، فكأن تعليمه العلم مِنّة منه إليهم ويدٌ له عليهم. وهو عادةً يرى لنفسه مكانةً خاصة عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم فيخاف عليهم أكثر ممّا يخاف على نفسه (باعتبار أنه ضَمن الجنة لنفسه!) ويراهم هالكين ويرى نفسه ناجياً، وفي الحقيقة هو الهالك الفعليّ، وإلى ذلك أشار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: "إذا سمعتم الرجل يقول هَلَكَ الناس فهو أهلَكُهُم". وهذا بأن يُسمى جاهلاً أولى من أن يُسمى عالماً، قائداً، وأميراً للمؤمنين، ذلك أن العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به ربه، ويهاب به من خطر الخاتمة فيستعد لها، ويزداد خوفاً وخشيةً من الخالق تعالى فيتواضع لخلقه، فتعلو عند الله درجته. فليعلم هذا القائد أنه ما بقي على هذا الخُلُق فإنه يضع الدعوة الإسلامية على أولى خطوات تقويض دعائمها. أما بالنسبة للكِبر عند الأفراد، فيحدث بأن يتعالى بعضهم على بعض من جراء زيادة في الخبرات الدينية والعلمية، أو حركة فعّالة في النشاطات الدعوية، أو كأن يُعقد بعض الأفراد من قبل القائد إعداداً دعوياً خاصاً يظنون بموجبه أنهم مَلَكوا حق استصغار شأن إخوانهم أو أخواتهن ممن هم دونهم في العطاء. وأيضاً فإن الكبر لديهم يكون بأن يشعروا أنهم يُجزلون العطاء الدعوي فيمنّون على القيادة عطاءهم وكأنهم يقدمونه لأشخاص أو لهيئات وليس لله الواحد القهار تبارك اسمُهُ وتعالى جدّه. وهذا والله لزيغٌ عن الحق واتباع للهوى ورياءٌ للأشخاص، وهذا عاملٌ آخر من عوامل تقهقر الدعوة الإسلامية. وأما بشأن الدعوة بشكل عام (قادةً وأفراداً) فالكِبر عندها يكون باستعلائها على غيرها من الدعوات كأن تظن أنها الجماعة الأم وغيرها فراخ لها أو أنها الوحيدة الماضية على النهج الحق ولو بُصرت بأخطائها، وأنها وحدها الفائزة برضوان الله (على وجه التأكيد!)، وأنها الناجية من العذاب يوم القيامة، وأن مَن يتبع سواها فهو ضالٌ لا محالة... ومن الظواهر العجيبة على الساحة الإسلامية انقلاب بعض الجماعات من النقيض إلى النقيض في فكرها المنهجي أو خطّها السياسي، وأفرادها صمٌ بكم لا تكاد تجد من بينهم من يقوم لتقويم المسار وإبداء النصح، بل وقد تستعلي هذه الجماعات على غيرها بمجرد كصرة الأعداد أو عراقة التاريخ!! وكل ذلك يحدث نتيجة خوض المرء في العلم وهو خبيث الدخيلة، رديء النفس، سيّء الأخلاق، فإنه لم يشتغل أولاً بتهذيب نفسه وتزكية فلبه، فبقي كما كان خبيث الجوهر ولم يزده علمه إلا خبثاً وجهلاً، وقد ضرب وَهَب بن مُنَبه (وهو أحد التابعين) لهذا مثلاً فقال: "العلم كالغيث ينزل من السماء حلواً صافياً، فتشربه الأشجار بعروقها، فتحوله على قدر طعومها، فيزداد المرّ مرارةً والحلو حلاوة". فكذلك العلم، يزيد المتكبر تكبراً، والمتواضع تواضعاً. فالعلم من أعظم ما يُتكبّر به، ولذلك قال تعالى لنبيه الكريم: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين). ومن هنا فإنني أناشد كل قائدٍ لأيّ دعوة إسلامية أن يتقي الله في رعيته وليكم لهم خير قدوة يُحتذى بها. وأحذّر جميع المسلمين العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، أحذّرهم من خطر المساهمة في انهيار الدعوة الإسلامية التي لن يستقيم بعدها أمر المسلمين. وأنبّه الدعوة الإسلامية قيادةً وعاملين أن لا تأخذهم العزّةُ بالإثم فيفرطوا بحقوق الإسلام وأبنائه ويُحدثوا الزعزعة والتفرقة في صفوف جميع المسلمين. وإلى جميع المسلمين أقول: هل وصلنا إلى ما وصلنا إليه من شرذمة وحدتنا وتفريق صفوفنا (على الرغم من بزوغ شمس الصحوة الإسلامية)، إلا باستعلائنا على بعضنا البعض، وإعجاب كل ذي رأي برأيه وعدم تقبّله النصح من أخيه المسلم، على الرغم من أن تقديم النصيحة وتقبّلها كان رمزاً للصحابة الكرام رضي الله عنهم، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مثلاً، أنه قال:"رحم الله أمرأً أهدى إلي عيوبي". فأين نحن من أخلاقهم رضوان الله عليهم أجمعين؟ وختاماً، أسأل الله العلي الكبير ربّ العرش العظيم أن يُطهرنا من الآفات الخُلُقية والآثام القلبية الجوهرية التي تهدد دعائم مجتمعنا الإسلامي فتُضعف أُسس بنائه السليم فتُحيله إلى ساحاتِ صراعٍ بين أبنائه الموحّدين. العدد الثاني - صفر 1416 هـ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن