الوسطيَّتان...؟
الوسطية في القرآن ليست وسطية واحدة، بل هي وسطيتان، وسطية مطلوبة، ووسطية مرفوضة.
فمن «الوسطية المطلوبة» في القرآن ذلك الدعاء القرآني الباهر الذي ندعو به يومياً عشرات المرات: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).
فانظر بالله عليك كيف ترسم هذه الآية خط «الصراط المستقيم» وسطاً بين مسار (المغضوب عليهم) ومسار (الضالين).
ولذلك استحقت هذه الأمة الوصف القرآني المشرِّف: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًاً).
هذا من حيث الإسلام كله، أما من حيث شرائع الإسلام التفصيلية، فإن الله لما ذكر الصلاة قال: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)؛ فجعل ابتغاء السبيل بين «الجهر» و «المخافتة» وسطية مطلوبة.
وحين ذكر الله تعالى النفقة قال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)؛ فجعل النقطة الوسط بين الإسراف والتقتير «قَوَاماً» أي وسطية مطلوبة.
وهناك الكثير من شواهد الوسطية المطلوبة في القرآن.
لكن هل هذا كل شيء؟ هل هذه هي الوسطية في القرآن؟
لا.. ثمة لون آخر من الوسطية شرحه القرآن أيضاً.. وإنْ كان يتغافل عنه مروِّجو «وسطيّة الميديا»...
فإنّ الله تعالى لما ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخصومهم، ذكر طائفة أخرى من الناس أرادت أن تنتهج منهج «الوسطية» بين الفريقين، فقال تعالى عن هذه الوسطية المرفوضة: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ).
وهؤلاء أصحاب «الوسطية المرفوضة» تجدهم دوماً يحاولون أن يحسِّنوا العلاقات مع أهل الحق وخصـومهم، أو كما يقولون بلغتهم المفضلة: (نبني جسور العلاقات مع جميع الأطراف!)، كما قال تعالى عن هذا المظهر من مظاهر وسطيتهم: (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا).
الطريف في الأمر أن هؤلاء الوسطيِّين تلعب بهم «النفعية والبراغماتية» إلى مداها الأقصى، فإنْ كان النفوذ لأصحاب الدعوة كانوا معهم، وإن كان النفوذ لخصوم الدعوة كانوا معهم.
ووُجد في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مَن كفر بالكتب السماوية كلها، ووُجد فيها مَن آمن بها كلها، ووُجد الفريق الثالث وهو مَن توسط بين الفريقين، فآمن ببعض كلام الله وترك البعض الآخر، فهل كانت هذه وسطية محمودة؟ لقد ندد القرآن بهذه الوسطية بكل وضوح فقال: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ).
حسناً... ما هو الفرق إذن بين هاتين الوسطيّتين في القرآن؟
الحقيقة أن الوسطية المطلوبة في القرآن تجدها دوماً (حق بين باطلَيْن).. أما الوسطية المرفوضة في القرآن فتجدها دوماً (وسط بين الحق والباطل).
فهؤلاء الذين ينادون دوماً بالوسطية الدينية، والوسطية في فَهم الإسلام، إن كانوا يعنون بالوسطية وسطية «أصحاب محمد» صلى الله عليه وسلم في تفسير النص، والموقف من العلوم المدنية، والموقف من الكافر، ودور المرأة، وضوابط الحريات الشخصية... إلخ، فهذه وسطية مشكورة محمودة، ونحن جنود لكل راية تحمل هذه الوسطية.
أما إن كان المراد التوسط بين منهج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والفكر الغربي، فهذه وسطية مردودة ونحن - بعون الله - خصوم لهذه الوسطية التي سبق أن شرح القرآن نظيرها فقال: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن