دموع في الاسكندرية
ذهبت للإسكندرية من أجل عمل لي هنالك، وكانت هذه أول مرة أزورها بعد الثورة، فوجدت الناس على غير ما عهدتهم، ووجدت الأمل يملأ القلوب، والعزم والحماسة يملآن الصدور والعقول، ومظاهر الفرح لا تخطئهما عيناك أينما أدرتهما، فاللهم لك الحمد والمنة.
وفي يوم الجمعة قصدت الجامع الأشهر في الإسكندرية، والمعقل الأكبر للثوار فيها، مسجد القائد إبراهيم على شاطئ البحر، فعجبت من ازدحام الناس فيه وفي الشوارع المحيطة به، فأخبرني مَن كان معي أن هذا هو حال الجامع منذ بدأ فيه الخطبة الشيخ الأشهر في الإسكندرية الشيخ أحمد المحلاوي، بعد انقطاع دام أكثر من ثلاثين عاماً، وهو الذي سجنه السادات سنة 1401هـ وقال عنه في خطاب له: هو في السجن قد رمي فيه كالكلب!! ..
فسبحان الله العظيم لم يمهل الله تعالى السادات سوى بضعة أشهر بعد هذه الخطبة ليُرمى في حفرته قتيلاً ذليلاً، وبقي الشيخ المحلاوي بعده أكثر من ثلاثين سنة ليرجع بعد ذلك خطيباً شهيراً، والشيخ عمره اليوم أكثر من 85 سنة فإذا سمعته يخطب يخال إليك أنه في أشده، ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وقد ذكر في خطبته الأولى أهوال القيامة مفسراً صدر سورة الانشقاق، ثم جاء في خطبته الأخرى بأحوال مصر مهاجماً فيها نائب رئيس وزرائها يحيى الجمل الذي فاق وقاحته كل الحدود؛ فقد هجم على كلام الله تعالى وحاول إجهاض قرار الشعب بنعم للتعديلات الدستورية، واجتمع بالعلمانيين واليساريين في أكثر من مؤتمر لحرب الإسلام والمسلمين، إلى آخر قبائحه، فهاجمه الشيخ باعتدال وحكمة وأخّر باقي الكلام عنه إلى مؤتمر أعلن عن إقامته بعد الصلاة، وهو من تنظيم الإخوان المسلمين، وهو عن مساندة الفلسطينيين والوحدة الوطنية.
وبعد أن أنهى الشيخ الصلاة اجتمع الناس حول منصة نصبت في الشارع الملاصق للمسجد، وقد امتلأ بالناس واستكمل الشيخ الكلام على يحيى الجمل ومشروعه الخطير في وأد الإصلاحات في مصر، ثم تكلمت د.أمل خليفة وهي أستاذة جامعية متخصصة في التاريخ، تكلمت عن فلسطين وبيت المقدس كلاماً حسناً جزاها الله خيراً، وتكلم عدد من المشايخ والأساتذة على رأسهم الفقيه القانوني الدستوري الشهير صبحي صالح الذي يُعدّ شوكة في حلوق العلمانيين اللادينيين والليبراليين في مصر ولله الحمد والمنة، وأعلن في كلمته أن الإسلام هو خيار الشعب المصري وأنه لا يُقبل أن يحكم بغيره، وهاجم يحيى الجمل في افتئاته على مشروع الدستور الذي أقره الشعب المصري بأغلبية كبيرة، ولله الحمد والمنة.
أما الذي استدرّ شؤون عينيّ، وأسال دموعهما مراراً ولم تفلح محاولات وقفهما ولا مداراة وجهي عن الناس أثناء سيلانها هو الهتافات المتكررة التي كان يهتف بها الشباب المحيطون بالمنصة، وهي هتافات لم تسمع في مصر منذ أكثر من ستين عاماً منذ ثورة يوليو المشؤومة، فقد كان الشباب يهتف: خيبر خيبر يا يهود جيش محمد هنا موجود، وقد أبكتني جملة "هنا موجود" هذه فإن العادة أن يهتف الشباب "جيش محمد سوف يعود" أما "هنا موجود" هذه فهي جملة موفقة ذكية تنبئ عن أن الشباب المصري بدأ في معرفة مظاهر قوته وتلمس استعمالها في وجهها ولما هُيئت له.
ومن الهتافات أيضاً: "على القدس رايحين، شهداء بالملايين"، وأنا أزعم -والله تعالى أعلم- أن هذه الهتافات قد أقضّت مضاجع اليهود -الذين سمعوها وحللّوها- إلى الغاية التي ليس بعدها غاية، فها هي مصر التي عملوا على تحييدها منذ حوالي 35 سنة تعود من جديد متصدرة الدول العربية والإسلامية في قيادة الصراع ضد إخوان القردة، وتعقد المصالحة التاريخية بين فتح وحماس، وترعاها رعاية الأم لوليدها، ونحافظ عليها حفاظ المرضعة لرضيعها، وقد تعاطف الشباب مع هذه الهتافات ورددوها معاً على نحو جعلها من أجمل وألذّ ما سمعت في حياتي، فاللهم لك الحمد والمنة.
ومن الهتافات المهمة -أيضاً- التي تبرز التطورات في مصر: يا فلسطيني يا فلسطيني، دمك دمي ودينك ديني، وهذا هتاف مؤثر مهم بعد أن عُزل الفلسطيني عن إخوانه العرب والمسلمين طويلاً بدعوى أن القضية فلسطينية، وما يرضى به الفلسطينيون يرضى به العرب إلى آخر تلك الدعاوى التي أضرّت كثيراً بالقضية الفلسطينية، وهتاف "دينك ديني" هتاف جيد موفق يبرز إسلامية قضية فلسطين وأنها ملك للأمة كلها وليست للشعب الفلسطيني فقط.
وقد رُفعت أعلام لفلسطين ومصر وليبيا وأظن لسورية واليمن أيضاً مما يظهر بجلاء أن مصر عادت ولله الحمد والمنة إلى الحضن العربي، بل لعل الأوفق أن أقول : إن العرب عادوا للحضن المصري، أليست مصر هي أم الدنيا؟
وممن سُعدت برؤيته في مصر شيخ السلفيين فيها الطبيب الموفق العالم محمد أحمد إسماعيل المقدم، وهو امرؤ دمث الخلق، لين الطباع، حسن المروءة، جميل الخلق، سهل غير متكلف، أحسبه هو الأب الروحي لسلفيي الإسكندرية، وقد تحدثت معه كثيراً عن أهمية التنسيق مع كل من يريد مصلحة مصر، وأهمية توجيه الشباب السلفي حتى لا ينزلق إلى مالا يحمد عقباه مما تكلمت عنه في حلقة سابقة نشرت في هذه المجلة الغراء، وقد أكّد لي -حفظه الله تعالى ونفع به- حرصه التام على هذا الموضوع، وعلى تفويت الفرصة على أعداء الإسلام لزرع الفتن في البلاد، وضرب مسلميها بعضهم ببعض، وضرب المسلمين بالنصارى، وقد حمدت له هذا، ورأيت أنه أحد القلائل القادرين على قيادة مسيرة السفينة السلفية إلى بر الأمان، إن شاء الله تعالى.
وممن سررت برؤيته في هذه الرحلة سعادة المهندس عبد القوي، وسعادة المحامي مجدي عثمان، وهما قد تعبا في خدمتي وإسعادي فجزاهما الله تعالى خيراً وهما من أفاضل الثغر السكندري، وشيخ الإسكندرية الموفق -إن شاء الله تعالى- والحكيم محمد حسين، وسعادة القانوني الموفق، إن شاء الله تعالى، صبحي صالح وعدد آخر من الفضلاء والكبراء، وفقهم الله تعالى وبلغهم سعادة الدارين، آمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة