القلب وأثره في صلاح الفرد
يواجه المجتمع اليوم، أمواجاً عاتية من الانحراف الفكري والفساد الخلقي، مما يهدِد حياة الفرد والأمّة بالهلاك والشقاء في الدنيا والآخرة.
وهذا يستدعي من كل مسلم غيور أن يسعى لإصلاح نفسه وغيره، مبتدئاً بقلبه أولاً لأنه مفتاح صلاح الفرد، وببيته ثانياً لأنه مفتاح صلاح الأسرة والمجتمع والأمة.
وفي هذا العدد، نحاول تسليط الأضواء على القلب.. وأثره في صلاح الفرد، وفي العدد القادم- إن شاء الله- نتناول البيت.. وأثره في صلاح المجتمع.
• حقيقة القلب... ومكانته
القلب هو جوهر الإنسان، ومستودع الأسرار، ومركز القرار، ومنبع المشاعر والأحاسيس، وموطن الهدى والإيمان ومصدر الحياة...
وإنما سمِي القلب قلباً لشيئين:
أولاً: لأنه أشرف ما في الإنسان فقلب كل شيء: وسطه ولبّه وخلاصته.
ثانياً: لأنه سريع التقلُب شديد التغيّر. قال صلى الله عليه وسلم:"إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلبﹴ واحد يصرفه كيف يشاء" رواه مسلم.
والقلب والعقل من الألفاظ المشتركة في معانيها، وقيل: العقل في القلب، والذاكرة في الدماغ. قال تعالى:﴿أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها..﴾[الحج:46]. وقال جلّ شأنه:﴿.. لهم قلوبٌ لا يفقهون بها..﴾[الأعراف:179].
والقلب هو أشرف ما في الإنسان وأهم ما فيه وهو بمثابة الملك، وسائر الأعضاء والجوارح بمثابة الجنود فإذا صلح الملك صلحت الرعيّة والعكس صحيح. قال صلى الله عليه وسلم:".. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُه وإذا فسدت فسد الجسد كلُه ألا وهي القلب" رواه البخاري ومسلم.
قال النووي رحمه الله:(إنما يحصل صلاح القلب بسلامته من الأمراض الباطنة، كالغلّ والحقد والحسد، والشُحّ والبخل والكبر والسُخرية والرِياء والسُمعة والمكر والحرص والطَمع، وعدم الرضا بالمقدور..).
والقلب هو محل النظر الإلهي وقيمة المرء عند الله بقلبه. قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" رواه مسلم.
فعلى الإنسان أن يقوم بمسؤوليته تجاه قلبه، استجابةً لأمر ربّه سبحانه وتعالى الذي وضعنا أمام مسؤولياتنا فقال:﴿إنّ السَمع والبصر والفؤاد كلُ أولئك كان عنه مسؤولا﴾[الإسراء:36]. والقيام بهذه المسؤولية تجاه القلب يستدعي تعهُده بالإصلاح من خلال تزكيته بالفضائل وتنقيته من الرذائل وتغذيته بالعلم والإيمان وإضاءته بأنوار السنّة والقرآن.
وعلى العاقل أن يتفقد قلبه على الدوام ويطمئن عليه باستمرار... هل هو سليم أم سقيم؟! وهل هو حيٌ أم ميت؟!.
قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القرآن وفي مجالس الذّكر وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن!! فسل الله أن بمنّ عليك بقلب فإنه لا قلب لك). وشاهد ذلك قوله تعالى:﴿إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَمع وهو شهيد﴾[ق:37]. فمن لم يتَعظ بالقرآن ولم يستيقظ قلبه بالذّكر ومن لم يتصل فؤاده بالله في أوقات الخلوة والفكر... فمعنى ذلك أنه بلا قلب... والعياذ بالله.
• قلوبٌ يحبها الله
أحبُ القلوب إلى الله تعالى: القلب السليم الذي هو عنوان الفوز عند الله تعالى يوم القيامة:﴿يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلاّ من أتى الله بقلبﹴ سليم﴾[الشعراء:88-89]. وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني أسألك قلباً سليماً".
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:(القلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته..). ومن القلوب التي يحبها الله عزّ وجل القلب المخموم. فقد سئل صلى الله عليه وسلم: من خير الناس؟ فقال:"كل مؤمن مخموم القلب" قيل: وما مخموم القلب؟! قال:"هو التقي الذي لا غشَ فيه ولا بغي ولا غدر ولا غلَ ولا حسد".
ومن القلوب التي يحبها الله عزّ وجل ما ورد فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن لله تعالى في أرضه آنية... وهي القلوب.. فأحبها إليه تعالى: أرقّها وأصفاها وأصلبها" ثم فسّرها فقال:"أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقّها على الإخوان".
• القلوب الميتة والقلوب الحيّة
قال تعالى:﴿أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجﹴ منها كذلك زيّن للكافرين ما كانوا يعملون﴾[الأنعام:122].
في هذه الآية الكريمة يبين لنا المولى تبارك وتعالى، حقيقة الحياة، وحقيقة الموت. فالحياة الحقيقية هي حياة القلب بالنور والإيمان. والموت الحقيقي هو موت القلب بالكفر والظلام- والعياذ بالله- فكم من الناس يعيشون بين الأحياء ولكنهم موتى القلوب أفئدتهم خراب، قتلتهم الدُنيا ولهم في الآخرة سوء العذاب. قال تعالى:﴿ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنِ والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلُ أولئك هم الغافلون﴾[الأعراف:179].
وكم من الناس نحسبهم أمواتاً وندفنهم تحت التراب ولكنهم أحياء عند ربّهم يرزقون، أولئك الذين استجابوا لله وللرسول حين دعاهم لما يحييهم، فظفروا بحياة القلب في الدُنيا وبحياة الخلد في الآخرة:﴿يا أيُها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أنَ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون﴾[الأنفالك24].
• أسباب حياة القلوب
أكثر الناس يعانون في هذه الأيام... من قسوة القلوب وغفلتها بل ومن موتها في بعض الأحيان، فلا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً.. إلا ما أشرب هواها. فكيف يستعيد القلب دوره: كحاسةﹴ لمعرفة الحق، وكيف نمدُ القلب بأسباب الحياة والبقاء والسعادة والهناء؟
انطلاقاً من نصوص الوحيين (الكتاب والسنّة) وتحقيقاً لمعنى الاستجابة لله وللرسول... نستطيع تحديد الأسباب التالية لإحياء القلوب وإصلاحها:
1- العلم الصحيح النافع الخالص
أما الصحيح فما كان مستمدّاً من كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل أبداً، ومن سنّة رسول الله الثابتة التي لا يضلُ من يعتصم بها أبداً. والنافع الذي يقود إلى الخشية والتقوى. وأما الخالص فما كان لله وحده لا شريك له. قال صلى الله عليه وسلم:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثﹴ أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ (المرعى) والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك الماء ولا تنبت الكلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" متفق عليه. فلتكن قلوبنا الظامئة كتلك الأرض الطيبة ولنقبل على الهدى والعلم النبوي نرتشف منه، ونسقي به قلوبنا، ونتفاعل معه، لننتج الخير لأنفسنا ولغيرنا.
قال لقمان عليه السلام يعظ ابنه:(يا بنيّ جالس العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر).
2- الذِكر
قال الله تعالى:﴿ألا بذكر الله تطمئنُ القلوب﴾[الرعد:28]. وقال صلى الله عليه وسلم:"مثل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكر ربَه مثل الحيِ والميت" رواه البخاري.
فذكر الله هو الغذاء العجيب الذي يعيد الحياة إلى القلب ويسكب فيه الطمأنينة ويجلو عنه صدأ الأوزار والمعاصي. فلنكثر من ذكر الله تعالى، وخصوصاً من أوراد الصباح والمساء المأثورة عن النبي ﷺ وأذكار ما بعد الصلوات المفروضة.
3- تلاوة القرآن بتدبر
قال تعالى:﴿إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربِهم يتوكّلون﴾[الأنفال:2]. وقال صلى الله عليه وسلم:"إنّ الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب" رواه الترمذي.
فالقلوب إنما تعمر وتزدان بالقرآن خير الكلام، وبدونه تكون خربة من دمار، ومأوى للشرور والآثام. فاتقوا الله وأصلحوا قلوبكم واعمروها بالقرآن تلاوةً وفهماً وعملاً، ﴿أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبﹴ أقفالها﴾[محمد:24].
4- الإحسان وفعل المعروف
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ يشكو قسوة قلبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أتحبُ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟: ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك" رواه الطبراني وفيه ضعف.
5- استقامة اللسان والجوارح على طاعة الله ورسوله
قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه" رواه أحمد.
6- الدعاء
فالقلوب بيد الله وهو وحده القادر على هدايتها وتثبيتها، فلنكثر من الدعاء تأسِياً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي علّمنا هذا الدعاء:"اللهم يا مصرِف القلوب صرِف قلوبنا على طاعتك" رواه مسلم، وأيضاً "يا مقلّب القلوب ثبِت قلبي على دينك" رواه التِرمذي وغيره وقال حسن.
7- مجاهدة النفس
فإذا قوي الجسد بالشهوات ضعفت سيطرة القلب عليه. فينبغي مجاهدة شهوات الجسد وكبح جماح النفس والإمساك بلجامها حتى تنقاد للقلب المؤمن التّقيّ. قال الشيخ الصالح إبراهيم الخوَاص رحمه الله: دواء القلب خمسة أشياء:(قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل والتضرّع عند السَحر، ومجالسة الصالحين).
وأخيراً
﴿ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقِ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون* اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها، قد بيّنا لكم الآيات لعلكم تعقلون﴾[الحديد: 16-17].
بلى، يا ربِ، فقد آن الأوان لقلوبنا أن تخشع لذكرك، ولنفوسنا أن تخضع لشرعك، ولأمّتنا أن تعود لدينك على هدي نبيِك صلى الله عليه وسلم...
اللهم أعنّا على إصلاح قلوبنا ونفوسنا وواقعنا... يا أرحم الراحمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن