ولو يشاء الله لانتصر منهم
باسم الله نبدأ، وعلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم نسير
أحبتي في الله، المتتبع لما يحدث لأمة الإسلام، ولأهل القرآن في هذا الزمان يحار عقله، ويجيش لبه، وتكاد تختنق في صدره الأنفاس؛ ذلك لما يرى من العجب العجاب يحدث لخير أمة أخرجت للناس.
حتى كاد البعض -عياذًا بالله- أن يقع في الكفر باعتقاد أن قوة الأعداء فوق كل قوة عياذًا بالله، ناسيًا في غمرة الفتن قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} البقرة: 214
فمن سنن الله الكونية سنة الابتلاء، هذه السنة العظيمة التي جعلها الخالق الكريم سبحانه؛ ليميز الخبيث من الطيب، قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} العنكبوت: 1-3
فيا من ادعيت الإيمان، اثبت على إيمانك؛ فما يحيط بك إلا فتن وصفها الصادق المصدوق بأنها كقطع الليل المظلم، ولم يتركك ربك الكريم وحدك، بل أرشدك ودلَّك على طريق الفلاح وطريق الخروج منها؛ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: 153
ولا سبيل إلا سبيل محمد صلى الله عليه وسلم بإتيان ما أمر والانتهاء عما نهى؛ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]. فمن جاهد في الوصول إلى سبيل الحق والثبات عليه، فقد هُدِي إلى المخرج من الفتن بإذن الله؛ لذا ذكر الله تعالى في آخر سورة العنكبوت بأن من جاهد في الله -تعالى- فهو الجدير بالهداية إلى سبيله فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} العنكبوت: 69
وفي خضم هذه الفتن تأتي التساؤلات، ويوسوس الشيطان: أليس الله بقادر على إزالة هؤلاء الكفار من على وجه الأرض، وإراحة أوليائه من شرهم، والانتصار لهم؟!
وتأتي الإجابة: بأن الله على كل شيء قدير، ومن حكمته أن سَنَّ الابتلاء للأمة، وفي نفس السورة التي ذكرت فيها سُنَّة الابتلاء ذكر المخرج، وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} العنكبوت: 69
ومن صور الجهاد فيه تعالى جهاد السيف وجهاد الدعوة ونشر التوحيد ومواجهة أباطيل الكفر بنور الإيمان والاعتقاد الصحيح، وقد فصَّل تعالى الحكمة من ابتلاء المؤمنين بالكافرين والعكس في سورة محمد، قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} محمد: 4-7
فهذه الآيات تحمل بين طياتها البلسم الشافي والرد الكافي لما تمر به الأمة الآن، كما تقدِّم المنهج والمخرج من ضعف الأمة، هذا الترياق الشافي الكافي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} محمد: 7
فالله عز وجل قادر على اجتثاث الأعداء بقوله: كن فيكون، بقدرته التي لا يعجزها شيء، ولكن علينا أن ننصره سبحانه حتى نستحق النصر.. فأيُّ نصرٍ نصرناه؟! هل هو نصر الأضرحة وعبادة القبور، أم نصر البدع التي تكاد أن تأكل الأمة؟ أم نصر الفضائيات التي تكاد تعصف بأخلاق الشباب، أم نصر العلمانية والمناهج الفاسدة المنتشرة في أمة الإسلام؟ أم نصر تغييب شريعة الرحمن، أم نصر تشويه أولياء الله الحقيقيين من أهل السنة وأهل الحق في كل مكان واضطهادهم ووصفهم بأبشع الأوصاف، والتعامل معهم بمبدأ: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} النمل: 56!
أحبتي في الله، هل علمنا بعدُ أسباب انهزام الأمة، أم نحتاج المزيد؟
يقول العلامة ابن سعدي في (تيسير الكريم الرحمن) في تفسير هذه الآيات من سورة محمد:
"ذلك الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم، وانتصار بعضهم على بعض {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: 4]، فإنه تعالى على كل شيء قدير، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبدًا؛ حتى يبيد المسلمون خضراءهم. {وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4]، ليقوم سوق الجهاد، وتتبين بذلك أحوال العباد، الصادق من الكاذب، وليؤمن من آمن إيمانًا صحيحًا عن تبصرة، لا إيمانًا مبنيًّا على متابعة أهل الغلبة، فإنه إيمان ضعيف جدًّا، لا يستمر لصاحبه عند الفتن والبلايا. {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} محمد: 4، لهم الثواب الجزيل، والأجر الجميل، وهم الذين قاتلوا من أُمروا بقتالهم، لتكون كلمة الله هي العليا.
{فَلَن يُضِلَّ} الله {أَعْمَالَهُمْ}: أي لن يحبطها ويبطلها، بل يتقبلها، وينميها لهم، ويظهر من أعمالهم نتائجها في الدنيا والآخرة. {سَيَهْدِيهِمْ} إلى سلوك الطريق الموصلة إلى الجنة. {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} أي حالهم وأمورهم وثوابهم، بحيث يكون صالحًا كاملاً لا نكد فيه ولا تنغيص، بوجه من الوجوه
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} محمد: 7، هذا أمر منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا} الله، بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، وأن يقصدوا بذلك وجه الله، فإنهم إن فعلوا ذلك، نصرهم، وثبت أقدامهم؛ أي يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسادهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال، سينصره مولاه وييسر له أسباب النصر".
فيا أمة، انصري الله لتنتصري، هذا سبيل الله، هذا صراط الحق المستقيم، ليكن كل منا جنديًّا من جنود الملك، واعلم أنك إن نجحت في اللحاق بجند الملك الجبار وكنت من أهله ومن أوليائه، فقد التحقت بأول طريق النصر إن شاء الله.
فاللهَ اللهَ في الأمانة، وليعلم كل منا أن انتصاره لدينه سيعود بالنفع على نفسه هو، فلن يزيد من ملك الله شيئًا؛ فإن الله غني عنا، ونحن الفقراء إليه، فإن انتصرت فإنما تنتصر لنفسك، وتقدم لآخرتك لتفوز بجزيل العطايا، ووافر المنح.
ولا تستقلّ جهدك ولا تحقرن من المعروف شيئًا، فالجهاد مفتوح، فإن أغلق منه باب السيف في بعض المناطق، فباب الدعوة مفتوح ونشر العقيدة الصحيحة وتربية الجيل المخلص، ودحض البدعة وأهلها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر السُّنَّة، والجهاد بالمال، ببذل الصدقات، ونشر كتب العلم وشرائطه، ومساعدة العلماء وتذليل الصعاب أمامهم.
وليعلم كل منا أنه على ثغر، فليتق الله أن يُؤتى الإسلام من قبله
اللهم اغمرنا بواسع فضلك ورحمتك، وأزل الكرب والغمة عن أمة الإسلام، وانصر المسلمين وأعز الإسلام في كل بقعة وأرض يا رب العالمين
. (المصدر: كتاب إلى طريق النصر)
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن