ماذا بعد الغضب لغزة؟..
شهدنا الكثير من مجازر الكفار ضد المسلمين، من أندونيسيا إلى البوسنة والشيشان وتركستان وأفغانستان وبورما والأحواز والعراق والشام وجنوب لبنان وفلسطين ومصر والصومال ونيجيريا وإفريقيا الوسطى ومالي وغيرها. وها هو جرح غزة ينزف من جديد.
في كل مرة نهب نحن المسلمين هبات عاطفية ونعبر بردود فعل تنفيسية: نتناقل الصور مع تعليقات الأسى، نلعن الكفار ومن عاونهم، نؤلف قصائد...تختلط مشاعرنا ما بين حزن وفرح ويأس وأمل وغضب وخوف ورياء ومتاجرة بمآسي المسلمين طلبا للشهرة أحيانا!
هذا كله لا يرد روحا واحدة إلى الأجساد التي صارت تحت التراب، ولا يعوض طفلا واحدا من مئات الأيتام عن حنان آبائهم وأمهاتهم، ولا يرد ساقا بترت ولا عينا قلعت بالقصف، ولا يحدث في العدو خدشا.
في كل مرة تعاطف وغليان، ثم تستمر المأساة ونفتر نحن ولا يتغير فينا شيء...بل تبقى ذنوبنا وغفلتنا كما هي! ويعود كل إلى ما كان عليه:
- تعود الفتاة لفتنة شباب المسلمين بنفورها من الحجاب الصحيح، وهي التي بكت بالأمس على غزة.
- يعود البعض لانتخاب نواب يقر مجلسهم قوانين تجرم من يفكر في نصرة المسلمين! لماذا ينتخبهم؟ لأجل وظيفة أو "رفع" اسم عائلته بانتخاب قريبه!
- يعود بائع الفاكهة ليشتري بضائع يهودية ويقول لك: (شو بدك تسوي؟)!
- يعود المهندس ليسأل عن حكم العمل في الإنشاء الهندسي لقاعدة للقوات الأمريكية أو مركز تدرب فيه عملاءها ويقول لك: إن لم أقم بهذه الوظيفة سيقوم بها غيري!
- يعود أصحاب الشركات لينافقوا ويداهنوا لحكام بلادهم الحارسين لليهود وقد علموا أنه ما كان المجرم ليتفرغ لاغتصاب العفيفة لو الحراس على الباب!
- يعود أصحاب المحلات في المولات إلى تعليق صور ماجنة تفتن شباب المسلمين بحجة عرض البضاعة وأنها "ماركة"!
- يعود الشباب ليتابعوا المسلسلات والمشاهد الخليعة وهم يعلمون أن أعداءهم يتخذون شهوات الشباب لجاما يقودونهم منه!
- يعودون لإضاعة الأيام والسنوات من أعمارهم في غير منفعة ولا في العلم الذي لا تقوم الأمة إلا به.
هؤلاء جميعا تأثروا، انفعلوا، لعنوا اليهود ومن والاهم ومن عاونهم (وقد يدخل بعضهم في هذا بالمناسبة!!) وتنهدوا مرارا وقالوا حسبي الله ونعم الوكيل!
صحيح أن حالة الغليان والتفعيل الإعلامي للقضية قد يساعد في تخفيف حدة الإجرام قليلا. ولست أقول هذا الكلام للتقليل من شأن التعاطف مع قضايا المسلمين، ولكن حتى نعلم أن تعاطفنا وحده لا يبرئ ذمتنا ولا يساعد إخوتنا.
حالنا كحال من رأى إخوة له في السجن يعذبون، فتعاطف معهم وأراد إنقاذهم، لكنه مقيد بقيود: قيد الجهل، وقيد الهوى، وقيد أمراض القلوب...فأرواحنا محتلة كما بلاد من نبكي عليهم محتلة.
هذه قيود تعايشنا معها فسلط الله علينا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا. حكامنا هؤلاء هم في الظاهر من يحول دون نصرة إخواننا، لكنهم في الحقيقة مظهر من مظاهر ذنوبنا!
هذا المسلط عليك يمسك بطرف القيد. أنت تصيح وتبكي على حال إخوانك وتدور حول سجنهم. والجلاد يتركك تصيح وتدور ما دام يمسك بطرف القيد. يعلم أنك ستتعب في النهاية وتتوقف بعد أن تكون قد نفَّست.
في حالتنا المزرية هذه، عندما يأتينا من يقول لنا: تعال نكسر القيود. ننفعل ونقول له: (عن أي كسر تتحدث؟! لا بد من فعل عاجل! إخواننا يذبحون). كم مرة كان هذا ردنا؟! فهل أنقذنا إخوتنا من مآسيهم أم بقوا فيها وبقيت أرجلنا في قيودها؟!
شئنا أم أبينا...كسر القيد هذا لن يكون بين عشية وضحاها. في الثورات العربية غضب المسلمون دون علم ودون تغيير حقيقي في النفوس، ودون علاج لأمراض القلوب وتخلص من الهوى. ماذا كانت النتيجة؟ احتواء الكفرة بعض هذه الثورات، بل ونجحوا في بعض الساحات في ضرب المسلمين ببعضهم.
طيب ما المطلوب؟ هل العكوف على طلب العلم و الانشغال بإصلاح النفس عن متابعة قضايا الأمة؟
أين نحن حينئذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ: إذا اشتَكى منْهُ عضوٌ تداعى لَهُ سائرُ الأعضاءِ بالحمَّى والسَّهَرِ)؟
فلنتذكر إخوتي: كل مأساة جديدة للمسلمين هي حجة علينا، والله سائلنا عما فعلنا فيها: ((ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)).
المطلوب تحويل الغليان إلى قوة دافعة إيجابية. السيارة تسير بالوقود. إذا خرج الوقود عن مساره احترقت السيارة. فكم من إنسان تحول حزنه وغضبه لأوضاع المسلمين إلى شك في الحكمة والقدر أو إلى سوداوية ونقمة على النفس وعلى الناس من حوله وازدراء لهم فأصبح هما جديدا يضاف إلى هموم الأمة!
بينما إذا نجحنا في استغلال غضبنا دَفَعَنا على الأمام نحو كسر القيود.
طبعا، سيأتي من يقول: هذا تلهية عن الواجب الحقيقي، لا حل إلا بالجهاد.
أخي، إن جاهدت بنفسك فغاية الأماني. لكن، إن لم تفعل، فهل البديل: صفر، لا شيء؟! كم مرة قلت مثل هذا ثم لم تغير في حياتك شيئا؟!
دعونا نحول غضبنا وحزننا إلى قوة دافعة:
1. كم أختا ستقول: نصرة لغزة سألتزم بالحجاب الشرعي؟
2. كم شابا سيقول: نصرة لغزة سألتزم بالصلاة؟
3. كم صاحب محل سيقول: نصرة لغزة أزلت الصور السيئة من واجهة محلي؟
4. كم مسلما سيقول: نصرة لغزة سحبت مالي من الحساب الربوي؟
5. كم مسلما سيقول: نصرة لغزة بدأت في قراءة كتاب مع أبنائي مثل (هكذا ظهر جيل صلاح الدين)؟
6. كم مسلما سيقول: نصرة لغزة سأقوم بأنشطة لأولاد الحي في العطلة الصيفية بدل أن يبقوا مرميين في الشارع بين المخدرات والهمالة بل والنطق بالكفر أحيانا! في مأساة هي شر من مأساة غزة!
7. كم واحدا سيقول: نصرة لغزة سأترك الدخان وأدفع ثمنه لعوائل محتاجة عسى الله أن يرحمنا فالراحمون يرحمهم الرحمن؟
8. كم واحدا سيقول: نصرةً لغزة سأزيل صور الطغاة التي علقتها في محلي أو مكتبي رغبة أو رهبة! فلا أطيق أن أداهنهم وهم شركاء في الجريمة.
فهل سنفعل شيئا من هذا؟ أم نبقى ننفعل ثم نبرد، وإخواننا يوارون في التراب ونعود إلى غفلتنا كما كنا؟
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن