طَرَقات على قلب تائه...!
عيناه الغائرتان تصوبان سهامهما الفاترة فلا تكاد تصل إلى فضاء.. فما إن تغادر قوسها حتى تنكسر واحدة تلو الأخرى وتتساقط حوله لتجعل من جدران غرفته سجناً يزداد ضيقاً... وتنحبس الزفرات في صدره انحباس مَن أسلم الروح... وبين الفينة والفينة يطلق تنهيدة تخبر أنه ما زال في الرمق بقيّة.
سمع طرقاتٍ خفيفةً على الباب كسرت الصمت الرهيب المطبق على عالمه الخالي من أي معالم إلا من اليأس والقنوط.
وجالت في رأسه أمواج من الأسئلة المتلاطمة في عاصفة من التفكير المشتت: من الذي سيطرق باب لحدي في هذه الساعة؟! من الذي ما زال يذكر أن في هذه الدنيا شخصًا انقلبت عليه كل الظروف فألقته مسلوبَ الإرادة، خاويَ العزيمة، متهالك الأنفاس، هَرِماً في عمر الشباب، بعيداً عن كل معالم الحياة الاجتماعية؟!! لم يعرف منذ سنة من وجوه البشر إلا من يبيع له بعض البرامج التي يصممها على ذلك الجهاز، وذلك الذي يشتري منه ما يسد رمقه، وربما مر يومان، وأحياناً ثلاثة، وقد تصبح أسبوعاً لا يغادر هذه الأربع... فليس لأحدهما إليه حاجة في هذا الوقت المتأخر من الليل...
ردَّدَ بصوت مرتفع ليسمع نفسه: لم أسمع شيئاً... هذه قطة مرت من هنا... أو أحد أخطأ العنوان...
ولكن الطرقات صارت أكثر وضوحاً... إنها على باب هذا اللحد الذي اختاره لنفسه ودفع ثمنه من مخزون الماضي الذي أرداه إلى هذا البرزخ المقفر يقلب فيه أيام الصبا وينوح على شبابه الذي هرم قبل أوانه.
أخذت الطرقات تزداد حدة، فاستجمع قواه وحرك جسده النحيل واتجه نحو الباب، وما إن وصل حتى سمع صوتاً يتحدث بلغة أجنبية مشربة بنكهة عربية... وكأن هذا الصوت قد وجد في ملفات عقله ما يشابهه فهدأت نفسه قليلا... "ولكن؟! ماذا يريد مني؟!! لا لن أفتح الباب... سأتجاهل الأصوات، ولكن...
إلى أين المفر؟! ... إلى متى سيبقى هارباً من مواجهة الواقع؟!"... وأَصبَحَ تائهاً في دوامة تحاصره فيها أصوات آتية من خلف الباب تناديه إلى الحياة، وماض يجذبه إليه بقيود وكلاليب مما اقترفت يداه يدعوه إلى الفناء.. وانهمرت الدموع من عينه تستجديان الحل وتبغيان الوصول إلى بر الأمان...
وهدأت الأصوات الآتية من خلف الباب، ولم يعد يسمع ذلك الصوت الذي حرّك أشجانه وبعث فيه ضوء أمل... هل رحل؟! هل عاد إلى هناك؟! لا... لا...لم يرحل!! ولم لا يرحل؟! فأنا لم أفتح الباب... ولماذا يبقى؟!
ألم اتخذ القرار وأبتعد عنهم... ألم أُصِرَّ على المضيّ في ما أريد وتغافلت عن الاستماع إلى نصح والدتي... وإرشاد أبي..؟!! حتى أخي هذا ما كنتُ لأسمح له أن يذكّرني بأيٍّ من الطاعات أو حتى أمنحه فرصة ليحاورني!!
ويوم استقرت رجلاي في أرض المطار... ألم أَرْمِ كل صلة لي بعالمي ذاك وأفتح صدرًا لهذا العالم الآتي؟!... ألم أقل إن الدنيا ستعطيني منها ما أريد إذا أعطيتها حياتي؟!!... ولكن ما الذي حدث؟!!
درست واجتهدت... وسهرت الليالي وحزت على أعلى الشهادات في مجال الهندسة الإلكترونية، وتميزت في عملي، وحصلت على العلاوات والأموال، وعشت رفاهية الدنيا... فما أبقيت من حِلِّها وحرامها شيئاً تهواه نفسي إلا وفعلته... أعطيت الدنيا كل ما أملك: عقلي وفكري وروحي وحتى مالي... فماذا منحتني؟!!
كم قضيت من الليالي الحمراء أعانق فيها شهواتي أو أسامر فيها أصحابي... أصحابي؟!! أين هم أصحابي؟! ولماذا تركوني؟!! لأني لم أعد أملك المال؟! لأن الدنيا التي سخّرت لها طاقاتي سلبتني حياتي!
ويغرق في ذلك الزمن الذي كساه من الحزن كل معانيه ومن البؤس كل ألوانه فغُلفت الأفراح بأثواب الشقاء والرثاء والبكاء، ورحلت بهجة الأيام فزعة من عقوبة العصيان..
آه...!! كم كنت قاسيًا على نفسي... ولكن ما ينفع اللوم الآن... وها أنذا انتظر الموت، ألا ليته ياتي سريعًا.. وضم رأسه بين ذراعيه وتقوقع على نفسه وانفجر بالبكاء.. فيا تعس من ملأ ساعاته بالمعاصي والآثام، ويا بؤس من ارتمى في متاهات الظلم والعقوق والخذلان!!
وللمرة الأولى يسمع صوتًا يأتي من داخله يناديه: "أيها التائه في دجى الحرمان في البعد عن الرحمن، كفاك سلباً لهبة المنان، كفاك عبثًا، ولا تظنن المعصية تفنى في طي النسيان"!
وانطرح على ما يسمى سريرًا لعل نفسه ترتاح من هذا العناء، ولكن أي راحة للنفس إذا كانت أدواؤها قد تغلغلت وتشعبت، وسدّ عنها منفذ الهواء الذي يجدد الحياة فيها...
ومرة أخرى الصوت يناجيه: "ما زالت في العمر بقية، والرحمن ذو فضل وكرم وجود، ومن تاب من المعاصي والآثام غُسل منها وعاد نقياً... وها هو أخوك جاء يبحث عنك، إذًا هناك أمل في تصحيح الخطأ والبدء من جديد... لا تغلق الباب وتوصد قلبك إن عاد...".
مرت لحظات وكأنها الدهر، ونظراته على الباب يحدق فيه... ينتظر أن يُطرَق!!
وخيّم صمت رهيب كاد يعيده إلى يأسه وقنوطه وكآبته... ولكنه سمع الطرق من جديد...
لم تكن الطرقات على لوح الخشب، إنما هي دقات تدغدغ قلبه فيخفق حباً وشوقاً وحنيناً إلى الحياة... بل إلى روح الحياة.
وبيد التفاؤل فتح الباب لتقع عيناه على نور تجسدت تقاسيمه في وجه أخيه الذي فارقه منذ زمن... وتصمت الكلمات ويمتد عناق الحنين المتراكم من سنين طويلة... حنين إلى عطف الأم، وحنين إلى نصح الأب، وحنين إلى تآلف الإخوة... حنين إلى الوطن... وحنين إلى عودة النفس التائهة.
ويهتف الصوت في داخله :"هنيئاً لك... فقد وجدت نفسك بعد ضياع طويل، وغداً سيشرق فجر يوم جديد!".
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة