أنّات قلب...
لم تجد (فاديا) مكاناً تجلس فيه سوى مقعد صغير فعل الزمن فيه فعله حتى لكأنّه يئن من الألم.
ألم الفراق أشد وأقسى عليه من أَلَم حَمْله لأي وزن بشري فوقه، وهو الذي رافقها منذ أكثر من عشر سنين يتنقل معها من بيت إلى آخر، وها هو الآن يواجه مصير الحكم عليه بالتشرد ليُلقى خارج البيت، فلم تعد صاحبته تجد مكاناً يؤويها!! فما بال الجماد يرثي حظه؟
الغرفة فارغة من كل أثاثها بعد أن جمعت حاجاتها الأساسية في صندوق صغير بينما باعت الباقي لتسدّ بثمنه دَيْناً قديماً طوّق رقبتها فأهلكها وأتى على كل ما تملك.
كان قراراً مؤلماً لكنها لم تجد غيره... وها هي اليوم بلا عمل وبلا مأوى وبلا أهل.... اضطرت إلى التخلّي عن كل شيء تباعاً مقابل أن تفي بالدين المتراكم عليها منذ سنين.
كل من حولها كان يلومها وينهال عليها بالعتاب لما تقوم به، وما شعروا بما تعاني من ألم، وما كانوا ليمدوا لها يد العون غير صديقتها منال التي تعتبرها أختاً لها وتبوح لها بأسرارها، كانت تواسيها وتخفف عنها ولكنها لم تكن تملك من الدنيا إلا القليل لتقدمه لها، بينما تحمل لها من الحب الكثير، محبة في الله لا غير.
ما أروع تلك العلاقة التي جمعتهما... أخوّة صادقة في الله... تظهر في الملمات وعند الشدائد... هنا تُكتشف المعادن، وهنا يعرف المرء من يحبه ممن يدعي حبه! فالاختبار كان لهما معاً.
ذات يوم اتصلت فاديا تسأل صديقتها أن تعينها في فك أزمة وقعت بها جراء ذلك الدين المقيت، بالإضافة إلى مرض والدها الذي زاد من تعقد الأمور؛ فقد صرفت عليه كل ما كانت تملك وطرقت أبواب من تظن فيهم خيراً ولكنهم كانوا لا يزيدون عن إبدائهم الشفقة والرثاء لمصابها. فما كان من منال - التي لا تملك من المتاع غير اليسير - إلا أن هرعت لتلبية النداء ومؤازرة أختها يوم تخلى عنها إخوة النسب وأوصدوا أبواب منازلهم في وجهها... وقدمت لها محبتها قبل المادة... ولكن ذلك لم يَكْفِ لدفع أجرة المنزل، وكي لا تُطرد منه، سلمته لصاحبه.
وأصبحت فاديا بلا مأوى... وغابت عن مواجهة المجتمع ونأت بعيداً عن الناس بعد أن سافر والدها ليقيم مع ابنه المغترب، وانشغل إخوتها كلٌّ بحياته وعائلته، لا يفكر أحدهم إلا بنفسه... ونسي الجميع أن لهم أختاً كفكفت دمعهم وحضنتهم يوم غابت أمهم عن الدنيا.
نسوا تلك التضحيات الجسام التي أهدتهم إياها... ولو نطق الزمن لأخبر عن الدموع المخبأة خلف تلك البسمات التي كانت توزعها على إخوتها لئلا يشعروا بالأسى والغربة لفقد القلب الحنون... قلب أمهم.
نسوا أنها كانت بالأمس القريب تصل الليل بالنهار لتعمل وتمنحهم ما يحتاجون ليبنوا جسور التواصل مع المجتمع، ليصبحوا رجالاً لهم مكانتهم المرموقة، فلما صاروا نسوا ونسوها.
فلم تجد غير بيت الله يؤويها ريثما تجد عملاً تقتات منه وتؤمن المال لدفع أجرة منزل صغير.. ومكثت فيه متهجدة متضرعة أياماً طويلة لا تخبر أحداً بمكانها ولا تظهر على أحد إلا لحاجة ضرورية.
انقطعت عن الناس كلهم كما انقطعوا عنها إلا صديقتها منال، فقد بقي حبل الود بينهما موصولاً وإن لم يكن تلاقٍ بالجسد... كان لقاء أرواح واتصالات هاتفية ورسائل تطمئن إحداهما عن الأخرى.
لم يكن سهلاً على منال أن تعرف ظروف أختها في الله ثم تجد نفسها مكبلة غير قادرة على التخفيف عنها، فكرت باستضافتها في منزلها ولكن فاديا تملك من عزة النفس ما جعل الأمر يبدو مستحيلاً.
وتمر الأيام ثقيلة بهمومها، عابسة مقطبة تسعينية المظهر، وكأنها تمضي في طريق مسدودةٍ نهايته، فمتى سيأتي الفرج واليسر بعد هذا العسر؟! متى؟
في كل ليلة كانت تنصت إلى وسادتها وهي تواسيها بألا تحزن... سيشرق فجر يوم جديد بإذن الله، وتسمع من داخلها صوت رفيقتها الدافئ وهو يبعث فيها الأمل ويجدد فيها العزيمة ويثبتها على صبرها... فتغلق جَفْنَيْها بعد جهاد مع القلق الذي يخيم على حياتها.
ولكنها العناية الربانية التي لا يلمسها إلا مَن عرف الله حقاً.
فقد أشرق اليوم الذي سيبدل حياتها وينقلها من بلد إلى بلد آخر... إذ أُعجبت بها وبعلمها امرأة كانت ترتاد المسجد كل يوم تدرس القرآن عندها، فعرضت عليها عملاً خارج البلاد... وقفت مذهولة لما تسمع وتذكرت قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق : 2-3).
يا الله ما ألطفك بعبادك وما أرحمك... غمرتها موجة من الشعور بفضل الله وكرمه ومنّه عليها... فخرت ساجدة وعيونها تفيض بالدمع أن الله معها.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
ما شاء الله.. كتابة رائعة ومعان اروع.. ❤