لافتات على طريق التوبة
ما من معصية يرتكبها المسلم إلا كان لها أثر سلبي ينعكس على حالته النفسية ويمتد ليشمل حياته كلها، فالطاعة والعمل الصالح قرينة الحياة الآمنة والنفس الراضية، يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى - وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً - وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
والمعاصي قرينة التخبط والتشرذم والضياع، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124).
وربما لا يجني العاصي من الشقاء أكثر من أن يدمن المعصية فيألفها ثم يفقد متعتها، فيركض لاهثاً للبحث عن المزيد منها ليستعيد أثرها الذي خبا وسيخبو كلما أوغل فيها، فيستمر في بحثه المحموم يطلب الزيادة باحثاً عن المتعة التي فقدها، حتى تصبح نفسه الأمّارة بالسوء غولاً يفترس حاضره، ويقضي على أهدافه النبيلة، ولا يقنع منه حتى يرديه في جحيم الدنيا ثم الآخرة! فالمعصية لحظة سعادة ودهر شقاء، ولكن الله الرحيم جعل لنا في أيام دهرنا نفحات، نقوى فيها على أنفسنا ونستمد منه سبحانه قوة تعيننا على ترك المعاصي، لأجل ذلك يزورنا رمضان كل عام لنغسل في رحاب أيامه ونفحاته ما ران على قلوبنا من ظلمة المعاصي والآثام، مستعينين بإرادتنا التي تحررت من قيود الشياطين المصفّدين وبعزيمتنا التي أقبلت على الله بالصيام والقيام والذكر والدعاء...
فإذا بقلوبنا تصفو وأرواحنا تسمو، وتلوح لنا جائزة رمضان، فنسعى إليها بتوبة نعلنها لله نادمين على ما اقترفنا من الذنوب، عازمين على عدم الرجوع، متوقعين أن تـــفتــح السعادة لنا أبوابها وتأخذنا الطمأنينة بين ذراعيها لنجد أنفسنا في حضن الأمن والراحة والهدوء!!! ولكن رياح الواقع تصدم أمواج التوقعات، فإذا بنا نجد أنفسنا بعد التوبة وحيدين بين الناس، لا نشبههم ولا يشبهوننا، تداهمنا الغربة والوحشة أينما يمّمنا وجوهنا ... تعاكسنا الظروف، وتعلو في وجوهنا السدود والعراقيل، فيرفرف الحزن والألم معلناً سيطرته على المساحة الأوسع في نفوسنا، وعندها سنكون بحاجة إلى لافِتاتٍ تنتصب أمامنا تدلنا على الطريق، لأننا سنكون أمام خيارين :
إما أن نسقط مباشرة ونجد في ذلك المبرر لنعود عن توبتنا، أو أن نعلم أنه ما من معصية تُنتزَع من نفس المؤمن إلا ثارت نفسه وهاجت وماجت لأجل لذة المعصية التي فقدتها، فإذا بها تتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وتضطرب، ولا تدري كيف تسد حاجتها؟ ولا كيف تردم فراغ المعصية فيها؟...
فلا تكاد تسير بصاحبها إلا توقعه تارة في الحزن، وتارة في الضجر والملل، وتارة في الوحدة وشعور الغربة، وإذا بظروف الحياة التي كان يتوقع أن تضرب له سلام تعظيمٍ تبدو معاكسةً له، تجرّه للعودة لما كان عليه... دون أن يدرك أنه بهذا التحمّل والألم يكفِّـر عن ذنبه بين يدي ربه، ويوقِّــع صك توبته بتهذيب نفسه وترويضها وتطهيرها من أدران المعصية وآثارها...
إنه التعبير العملي لما ورد في شرعنا الحنيف من شروط التوبة، وهو: الندم... وعقد العزم على عدم العود... ولكن هل انتهى الأمر هنا؟!!
كيف ينتهي وما زال إبليس يتربص بنا؟! حتى إذا لمس منا ثباتاً وعزيمة توجه إلينا بِلِحْيةٍ طويلة وعباءة وعمامة يحمل "سبحته" ويتكئ على الفراغ الذي خلّفته المعصيةُ في حياتنا، فيهمس في آذاننا: إياكم وهذا الفراغ، لا بد من العمل... لا بد أن تثبتوا صدق توبتكم بواقع جديد.. لا بد أن تملؤوا فضاء نفوسكم وشغف أرواحكم... أن تعملوا لتُزيلوا عن قلوبكم الوحشة والغربة... ثم يشير إلينا: من هنا.. تعالوا... من هنا... ندخل ونحن مقتنعون أننا في مسيرة التغيير نسير، وعلى طريق التوبة نتوازن ونحن ثابتون، فإذا بنا بعد مدة نجد نفوسنا تغوص في مستنقع جديد لنوع جديد من الحرام..!! ندخل بابه ونحن نظن أننا بانشغالنا به نَقْوى على توبتنا، ونغيّر واقعَنا للأحسن! ولن يهبَنا الحصانةَ من هذا إلا وعيُنا بأهمية ملء الفراغ الذي خلّفته المعصية في حياتنا، هذا الفراغ الذي لا يملؤه شيء كالصحبة الصالحة التي يتواصى أفرادها بالحق ويتواصون بالصبر، والتي تنيرها شمس المحبة في الله، ليغدو الواحد فيها أمة، والأمة على قلب واحد...
إنه رمضان... أيام تجلو الأفهامَ لعلها تتفكر في أحوال النفس بعد التوبة، فتكون بِوَعْيها أثبت على توبتها وبعلمها أكثر قدرة على التقوى.. الغاية الأسمى التي لأجلها كتب الله علينا الصيام: (لعلكم تتقون) (البقرة: 183).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة