كاتبة وفقيهة سورية مقيمة في الأحساء، دكتوراه في أصول الفقه، ومستشارة علاقات زوجية.
رمضان.. اكسر الغصن
ذات يوم، تلقّى ملك من الملوك المولعين بالصيد هديةً صقرين من أحسن فصائل الصقور. فرح الملك كثيراً بهذه الهدية النادرة، وسلَّم الصقرين لمدربٍ ذي خبرة ممتازة وبعد شهورٍ قال المدرّب للملك: إن أحد الصقرين يطير ويحلق بمهابة ويصطاد ما يأكله، لكن الصقر الآخر لم يطر أبداً، وهو منذ جاء على فرع شجرة يابسة لا يتحرك!
فكر الملك ملياً في نفسه وقال: ربما عَلَيّ الاستعانة بشخص ما من المناطق الريفية القريبة، إذ ربما يكون أقدر على فهم طبيعة المشكلة، وفعلاً أمر رجاله أن يأتوه بأحد الفلاحين.
في صباح اليوم التالي لم يصدق الملك عينيه وهو يرى الصقر الثاني يطير فوق حديقة القصر، فسأل الفلاحَ: ماذا فعلتَ حتى جعلت الصقر يطير من جديد؟ فأجاب: لقد كسرت الغصن الذي كان يقف عليه يا مولاي.
* * *
إن إلفة الأشياء تحول بيننا وبين معرفة حقائقها والسمو في فضاءات القيم، ولذا نحتاج إلى (كسر الغصن) للتحليق من جديد؛ فـ (خيرُ عادةٍ ألا تكتسبَ عادةً)، هذه العبارة طرقت مسامعي وأنا طالبة في المدرسة، ولكنها رسخت في وجداني وعلّمتني أنه يجب دائماً (كسر الغصن).
ولأن الإسلام دين الخالِق العالِم بما يصلحنا (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: ١٤)، فقد جاءت تشريعاته واقعية تراعي طبيعة الإنسان وتهذب طبائعه وتسمو بروحه، فكانت الصلاة والجمعة والعيدين وصوم رمضان وحج البيت دورية وموسمية.
بعد أيام سيُظلنا (رمضان) شهر الصبر وحبس النفس وترك المألوف، وهو هدية الباري عز وجل للإنسان للخروج من أَسْر الطبيعة إلى فضاء القيم والإنسانية، وقد بشّرَ النبي صلى الله عليه وسلّم أصحابه بمَقدِمه فقال: "أتاكم رمضان ُشهر مبارك، فرض الله عليكم صيامَه، تُفتح فيه أبوابُ السماء وتُغلق أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطين، لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرم" أخرجه النسائي.
ويوفّر (رمضانُ) دورةً تدريبية مجانية، تتجاوز الجسد إلى البناء القِيَمي والأخلاقي وترسخ الرقابة الذاتية، ولذلك جاء فيه "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" متفق عليه.
ويخطئ الذين يقفون بالصيام عند حدود ترك الطعام والشراب نهاراً حتى إذا حل موعد الفطر أسرفوا في الشهوات والملذات، ويخطئ الذين يجعلون منه سبباً للغضب والشتم والأخلاق السيئة.
ولكي يحقق (رمضان) مقاصده السامية يجب التخطيط لاستثماره، أرأيتم لو أن لأحدكم زيارة للملك أليس يخطط لها؟ فيحدد ماذا يطلب وكيف يطلب، فهذا مثل رمضان، ولله المثل الأعلى.
وفيما يلي أفكار لخطة عملية تساعد على استثمار رمضان وكسر المألوف:
1. العزم على أن يكون التغيير الحاصل في رمضان دائماً، وأن ما بعد رمضان أفضل مما قبله.
2. تحديد ثلاثة أمور جوهرية تحتاج إلى تغيير أو ترك أو تحسين، والتركيز عليها، فكلما تحدد الهدف واتّضح كانت الهمة لإنجازه أقوى.
3. تحديد عدد ختمات القرآن، ولتكن في المتوسط ثلاث ختمات، في كل عشر ختمة، وتحديد وقت القراءة والأفضل بعد كل صلاة، ولو تَسَنّى لنا قراءة معاني الكلمات فلا شك أنه أفضل.
4. للصدقة أثر رائع، فيلزم تحديد مقدار الصدقة ولو كانت قليلة، والأفضل توزيعها على أيامٍ ليكون التعرض لنفحات الله تبارك وتعالى في أغلب الأيام.
5. اختيار المسجد الذي تصلي فيه التراويح، والأفضل اختيار مسجد يختم القرآن إن أمكن، والأفضل عندي التزام مسجد واحد لما يُحصّله المصلي من الخشوع عند إلفة المكان.
6. التخطيط للتدرج في زيادة العمل، فتزداد الأعمال الصالحة بدخول العشر الثاني فالثالث، ولا يكون الشأن أن نبدأ بعمل كثير ثم نقع في الفتور، وكلُّ امرئ فقيهُ نفسِهِ في هذا.
7. ليلة القدر من أعظم ليالي الدهر، فينبغي التخطيط للعشر الأخير بالقيام والاعتكاف -ولو في مصلى البيت بالنسبة للمرأة -والدعاء والتضرع لله تبارك وتعالى.
8. التخطيط للدعاء وتنويعه، واختيار أدعية مأثورة عن النبي [ والسلف الصالح ففيها الخير العميم، والدعاء للنفس والأهل بما ينفع وعدم التعدي أو التجاوز في الدعاء.
9. اختيار صحبةِ خيرٍ تعين على تقوى الله، فالمرء ضعيف بنفسه كثير بإخوانه، فإن لم تتوفر الصحبة فلا يكن ذلك مانعاً من العمل، فالأصل أن التكليف فردي (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم: ٩٣ – ٩٥).
10. تحديد ما تتابعه على القنوات الفضائية، على أن يكون برنامجاً أو اثنين هادفين، والحذر من متابعة المسلسلات، فالوقت أثمن من إضاعته في المباحات فضلاً عن المكروهات والمحرمات، والكل يعلم أن قنوات الشر تخطط قبل رمضان بشهور طويلة كيف تجعل المتعة هي الغاية في شهر رمضان، فلا يخرج المسلم من رمضان إلا وقد أتت المسلسلاتُ والبرامجُ الفكاهية وغيرها على جميع الأجور والخيرات!
11. أخيراً: تقنين استعمال مواقع التواصل الاجتماعي كـ (الفيس بوك) و(تويتر) و(الواتس آب)، فلا يزيد عن نصف ساعة في اليوم والليلة، إلا إن كان ثمة غاية مهمة وعمل نافع.
إن رمضان فرصة لـ (كسر الغصن) والتحليق عالياً حيث أراد الله تبارك وتعالى لهذا الإنسان المكرم المفضل (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء: ٧٠). فإن لم يكن (كسر الغصن) ممكناً للبعض، فأقول لهم: لا بأس بهز الفروع، فالإنجاز أن تقوم بكل ممكنٍ مُتاحٍ حتى ولو لم يكن كاملاً.
اللهم بلّغنا رمضان غير فاقدين ولا مفقودين، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة