باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
الزلاقة... وإنقاذ الأندلس
إنّ نهضة الأمة من كبوتها حقيقةٌ لا مناص منها وواقع ملموس في تاريخنا الأغرّ، فكم هي المراحل التي تصل فيه الأمة لانفراط عقد اجتماعها وتدبّ فيها الأمراض القاتلة حتي يظنّ أنه قد تودع منها... نجد قيام جماعةٍ مؤمنة مجاهدة تحيي ما مات فيها من مقومات النهضة والرفعة، تعلي بيارق العلم والمعرفة والوعي وترفع لواء الجهاد لتعيد للأمة ألقها، وأنّها سيدة بين الأمم بل أعظم أمة على وجه البسيطة.
والتاريخ الأندلسي نموذج واضح لتغيّر قوة المسلمين، حيث شهدت الأندلس موجات من المدّ الهادر التي واجهت الصليبية العالمية المتمثلة في إمارات الشمال، ومن أبرز هذه الموجات تلك التي قام بها المرابطون مُنْهِين حقبة من الاختلاف والشقاق والفرقة دامت أكثر من 40 عامًا عرفت باسم "ملوك الطوائف".
خرج المرابطون من رحم الصحراء منطلقين من فكرة أساسية ومنهجية سامية تمحورت حول الرباط والتربية وما يصاحبهما من إعداد علميّ وبدنيّ، وهو منهج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ربّى أصحابه العظماء فخرجوا للعالم بجحافل مؤمنة حطمت دولاً ظنّ أصحابها بأن ملكهم لن يبيد أبدا، وفتحوا ثلث المعمورة بأقل من ثمانين عامًا.
هذه التربية الإيمانية قام بتجديدها العلامة عبد الله بن ياسين رحمه الله (ت٤٥١ هـ)، وجذب الناس للعلم والعمل بعد عقود من الجهالة التي عمت سكان مناطق الصحراء الإفريقية، فلزم الناس الرباط وعاشوا بين سموّ في النفس وجهاد لها فخرجوا بحرًا من الإيمان وسَيْلًا قويًا هادرًا، كما استطاع المرابطون توحيد قبائل البربر التي لم تعرف قيادة واحدة من قبل فأصبحت (جدالة) و(لمتونة) وغيرها في صف واحد مستعدين للبذل في سبيل الله تعالى.
لم يكن عمل عبد الله بن ياسين رحمه الله مثمرًا بين ليلة وضحاها، بل كان إنجازه نتاج سنوات طويلة وصبر دؤوب وعمل مضنٍ، فقد رفضته (جدالة) ابتداءً ولم يقبلوا أن يأتي رجل غريب عنهم ليكسر صنمية الفجور والخلاعة التي يعيشونها فحاصره كبار القوم وأساطين الفساد ومنعوه من الدعوة والتعليم، وطردوه مرارا من منازل قبائلهم حتى وصل بهم الأمر تهديده بالقتل، فقام الإمام باعتزلهم وأقام في جزيرة على نهر السنغال - الآن- فجذب فكره المميز الصافي مجموعةً لا تتعدى أصابع الكف الواحدة ثم تصاعد العدد حتى وصل المرابطون لعدة آلاف بعد أحد عشر عامًا وهم في هذه السنين بين تفقه وتعلّم وسموّ في النفس والروح مع ممارسةٍ للدعوة بين القبائل المسلمة منها والوثنية.
وبعد استشهاد الإمام المؤسس عبد الله بن ياسين رحمه الله تولى قيادة المرابطين من بعده أبو بكر بن عمر اللمتوني (ت ٤٨٠هـ) وصب اهتمامه على إعادة الفهم الصحيح للإسلام كما اتجه صوب الأدغال الإفريقيّة داعيا إلى الله تعالى فعاد للإسلام خَلقٌ كثير ودخل فيه خلائق أكثر حتى أورد بعض المؤرخين بأنه قد اجتمع لأبي بكر اللمتوني رحمه الله من الجُند والأتباع أكثر من خمس مائة ألف مقاتل ...
خلال الفترة التي توغل فيها أبو بكر خلفه السلطان العادل يوسف بن تاشفين رحمه الله (ت ٥٠٠ هـ)، وقد قال عنه ابن الأثير رحمه الله: "كان حليماً كريمًا يحب أهل العلم والدين ويحكّمهم في البلاد... "، وقد استلم زمام الأمر في وقت مبكر فمع انطلاق أبي بكر لأدغال إفريقية قام بمتابعة الجهاد وتحول المرابطون من دويلة بسيطة في جنوب صحراء موريتانيا إلى إمارة عظيمة تضم حوالي ثلث القارة السمراء...
قي هذه المرحلة كانت الممالك النصرانية في الشمال الاسباني تتغول على المسلمين وتقضم المدن الأندلسية واحدةً تلو أخرى وكان آخرها حصار سقوط طليطلة إحدى درر العقد الأندلسي، ولم ينجُ من دفع الجزية للنصارى أحد من أمراء وملوك الطوائف، هذه الحالة المزرية من التشتت والتشرذم دفعت الأمير المعتمد بن عباد (ت 488 هـ) أمير قرطبة وفي صحوةٍ مشهودة من لجج الهزيمة ومداهنة الصليبيين داعيًا أمراء وملوك الطوائف عارضًا الحالة التي وصل إليها الأندلسيون من الضعف، خصوصًا أن ملك قشتالة ألفونس السادس كان يعد العدة للتفرد بمدن الأندلس الواحدة تلو الأخرى.
وبعد عبور المرابطين للأندلس تحدث تلك المعركة الفاصلة في تاريخ الإسلام في الأندلس، معركة الزلاقة ويجتمع جند الأمير يوسف ين تاشفين مع جند المعتمد ومن لحقهم من المتطوعين من كل مدن الجزيرة الخضراء، ويبلغ الجيش الإسلامي ثلاثين ألف مجاهد ويمضي الركب نحو الزلاقة، ويشير النؤرخون بأن جيش ألفونسو كان حلفًا صليبيًا، وأصبح ضخمًا جدًا واجتمع له المقاتلون من كل أنحاء أوروبا، حتى اغتر ألفونسو وقال مما نقل عنه المؤرخون "بهذا الجيش أقاتل الجن والإنس، وأقاتل ملائكة السماء".
اتبع ابن تاشفين خطة محكمة وقسم الجيش لقسمين بطريقة تساهم في استيعاب تحركات العدو والمناورة أمامه. وفي يوم الجمعة الموافق 12 من شهر رجب 479هـ هجم ألفونسو السادس بجيشه الضخم على الجيش الأندلسي واستعر القتال الشديد وابن تاشفين يؤخر تحرك الجيش الثاني لينهك الصليبيين، وعندما أطلق أمره استطاع قسم من جيش المرابطين الوصول لمعسكر الأعداء وأضرم فيه النار، وحوصر الجيش الصليبي بين قسمي الجيش المسلم. واشتدت المعركة وأبلى المسلمون بلاء منقطع النظير واشتدّ القتال حتى استطاع المرابطون الوصول لقلب جيش الصليبيين ولم يسدُلِ الليل سواده حتى تشتت جيش الصليبيين وغَنِم المسلمون غنائم عظيمة، واستشهد منهم حوالي ثلاثة آلاف مجاهد ولم يبق من جيش الصليبيين إلا من فرّ من أرض المعركة صاغرًا مهزومًا، وبذلك تكون الزلاقة واحدةً من أيام الإسلام ومعركةً فاصلة وحدثاً غيّر مجرى التاريخ تنضم لبدر واليرموك والقادسية وغيرها الكثير...
عندما نذكر معركة الزلاقة نحنّ لأيام المجد ولمحات البطولة والتضحية، في زمن يترك به زعماء المسلمين إخوانهم في بحار الدماء المضطرمة.
في الزلاقة أعاد يوسف بن تاشفين لأهل الأندلس الثقة بأن الأرض لا يحميها إلا الجهاد، وها هم أهل الشام اليوم يعيدون للأمة جهادها وعزها.
في الزلاقة نتذكر ذلك الجيل الرباني الذي نشأ في الرباط ومكابدة النفس، خرج للعالم طاهراً صافياً وطوداً من عزم وحركة، فسحق الطاغوت وأعاد للأمة ألَقَها.
هي قبس لنقول أن الطريق واضح ملموس، والقدوة حاضرة في كل عصر من تاريخنا وما علينا سوى أن نحث الخطى ونطلق العمل، ببصيرة واعية وصف مرصوص...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة