بين مقصد الاجتماع وفقه التمكين
محاربة أسباب الفُرقة، والأخذ بأصول الاتحاد والاجتماع - من أهم أسباب التمكين، فإذا كانت الفُرقة هي طريق الانحطاط، فإن الوَحدة هي سبيلُ الارتقاء؛ لذا كان مقصد الاجتماع والائتلاف، ونبْذ التفرق والاختلاف - من أجلِّ وأعظم مقاصد الشريعة، ولكثرة ما ورد فيه من نصوص منقولة، وأدلة معقولة؛ لم يختلف علماء الملة - قديمًا وحديثًا - حول اعتباره مقصدًا شرعيًّا مقطوعًا به، بل واعتباره من أهم مقاصد الشريعة على الإطلاق، وأن السعي لتحقيقه من أعظم الطاعات وأجلِّ القربات، نلحظ أهميته - بجلاء - في شعائر الدين الظاهرة والباطنة؛ فلحكمةٍ بالِغة شرَع الله لنا قراءة سورة الفاتحة من بين سُور القرآن لنقرأها في الصلاة، وليس فيها دعاءٌ واحد بصيغة المفرد، بل جميعها بصيغة الجمع، ومَنعت الشريعة إقامة جماعتين في وقت واحد في المسجد، كما نهت عن صلاة المنفرد خلف الصف وحده، إن قصد بذلك المخالفةَ والتميز عن بقية المسلمين، كما نهى النبي الكريم عن معارضة القرآن بعضه ببعض لأنها ستؤدي إلى التنازع والاختلاف، وفي مجال المعاملات أمرت الشريعة بتوثيق العقود؛ خوفًا من الجحود، كما منعت كل معاملة توقع بين الناس العداوةَ والبغضاء، بل وصل أمرُ تعظيم هذا المقصدِ إلى درجة أن رسولنا - وهو أفضل الخلق - نهى عن القطع بأفضليته إذا كان سيؤدي إلى الاختلاف والتنازع مع غير المسلم، فقال: (لا تفضّلوني على الأنبياء)؛ مما يدل على أن هذا المقصد ليس مقصورًا على المسلمين وحدهم، بل يشمل غيرهم ممن لم ينابذوا المسلمين العداءَ، أو يُعينوا أحدًا عليهم، فديننا لم ينزل لتأجيج الصراع بين بني البشر، ولكن لضبط العلاقة وتنظيمها.
ومن علامات الفقه ومقتضيات الربانية المشار إليها في قوله - تعالى -: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ [آل عمران: 79] - ألا يذكرَ الإنسان النصوص التي تشير إلى تفرّق الأمة أمام من يسيئون فهمها؛ حتى لا تُتَّخذ شعارًا تتفرق به القلوب، وتتشتت به الجهود، فالربانيُّ: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كِباره، وكأنه يقتدي بالرب - سبحانه - في تيسير الأمور، والمراد بصغار العلم ما وضَح من مسائله، وبكباره ما دقَّ منها، وعليه - إن ذكرها - أن يزيلَ عنها اللَّبس، ويضم إليها بقية إخوانها من النصوص الأخرى التي تحث على الاجتماع والائتلاف؛ حتى تظهر لوحة العلاقات مع الآخر جميلةً دون تناقض أو تضارب أو تشويه، تتناسب مع رسالة الإسلام لأهل الأرض، كما أن الإخبار بأن التفرق سيقع في الأمة لا يعني التسليمَ للأمر الذي سيقع؛ وإنما يعني الأخذ بالأسباب المشروعة لدفعه.
فإن قيل: مع من وعلى أي شيء يكون الاجتماع؟
فالجواب: في أوقاتنا هذه - أوقات المهمات والملمات؛ حيث تتعرَّض الأمَّة لخطر التخريب والتغريب والعلمانية من جهة، ومهمة رفع مخلفات الفرعون البائد من جهة أخرى - يكون الاجتماع على المصالح الضرورية والمشتركة، مع كل من له سعيٌ جاد في المحافظة على استقرار الوطن وأمْنه والدفاع عنه، حتى وإن كان معارضًا، طالما أن معارضته تدفع في اتجاه البناء لا العرقلة، لا سيما وأن المطلوب هو وَحدة الصف لا وحدة الرأي، وحدة القلوب لا وحدة العقول، وحدة القلوب تعني سلامة الصدر، وحسن القصد، وعمق الانتماء، أما اختلاف العقول، فيهدف إلى التلاقح والإبداع والتنوع في الاجتهاد، وعلينا ألا ننسى أن موسى الكليم طلب من ربه أن يؤازرَه بأخيه هارون؛ ليكون عونًا له في مواجهة طغيان فرعون واستبداده، فقال الله له: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ [القصص: 35].
ما أحوجَنا إلى تفعيل هدا المقصد في مرحلتنا هذه - مرحلة البناء والتكوين - حرصًا على وحدة المجتمع، وحشدًا لجميع طاقات الأمَّة في خندق المواجهة مع الحاقدين الكارهين الذين تبدو البغضاءُ من أفواههم وأقلامهم وأفلامهم صباح مساء، وما تُخفي صدورهم أكبرُ، لا يجمعهم إلا بُغضُ المشروع الإسلامي وحمَلَتِه، ولا يؤلِّف بينهم إلا الرغبةُ المشتركة في قهره وإفشاله، واستئصال كل بادرة للخير تنبُت على أرضه وتحت سمائه، ولا يَخفى أنهم قد راهنوا على تشرذمنا وتصدُّع صفوفنا، فلما رأوا منا بعض الحكمة والتعقل، رجعوا إلى أنفسهم فغيَّروا اللعبة، وأعادوا الكرة؛ مكابرةً منهم واستعلاءً.
وأخيرًا: لا يوجد مجتمع أقوى من مجموع أفراده، وفي الحكمة: ليس المهم السرعة التي تسير بها؛ لكن المهم أن تكونَ على الطريق الصحيح.
اللهم اجمع كلمتَنا على الحق، واهدِ قلوبَنا، وأزِلْ فُرقتنا!
المصدر: موقع الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن