الإلمام بأحكام تعدد الجماعات والرايات في أرض الشام
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على النبي الأمين وآله وصحبه أجمعين وبعد...
فهذه أجوبة مختصرة عن كثير من الأسئلة المتكررة عن الجهاد في أرض الشام، وعن حكم تعدد الفصائل والجماعات، وعن حكم اتخاذ الرايات، وحكم البيعة لفصيل من الفصائل المجاهدة..الخ
فأقول وبالله التوفيق..
إقامة الجماعة والأمير للجهاد والبيعة له وأحكامها:
الأصل وحدة الأمة واجتماعها، وقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين توحيد الله ووحدة الأمة في الحديث الصحيح (إن الله يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، وجعل المخرج من الفتن العامة وحدة الأمة والإمامة الواحدة والخلافة العامة كما في حديث حذيفة في الصحيحين (الزم جماعة المسلمين وإمامهم)، وفي مسند أحمد والطيالسي وسنن أبي داود بإسناد صحيح (إن كان لله في الأرض خليفة فالزمه)، فالواجب الاجتماع والاعتصام بحبل الله جميعا كما قال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، وأوجب ما يكون الاجتماع حين يجب القتال في ساحة الحرب والجهاد، كما قال تعالى {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}، وحذر من الافتراق والتنازع وأنه سبب للهزيمة فقال {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}..
فإن تعذر الاجتماع العام على الأمة كلها، أو الاجتماع في قطر من أقطارها، لوجود احتلال أجنبي، أو في حال ثورة كما يجري اليوم في سوريا، فيجب إقامة الجماعة والتعاون على البر والتقوى في كل ما احتاج للجماعة سواء لقتال العدو، أو إدارة المناطق المحررة، أو إغاثة المنكوبين، كما قال تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى}، ولا يتحقق التعاون إلا من اثنين فأكثر، كما قال ابن حزم (قال تعالى {وتعاونوا على البر والتقوى}وقال {كونوا قوامين بالقسط} فهذان الأمران - التعاون والقوامة – متوجهان، أحدهما - وهو القيام بالقسط - إلى كل إنسان في ذاته، ولا يسقط عنه وجوب القيام بالقسط انتظار غيره في ذلك، وأما التعاون على البر والتقوى فمتوجه إلى كل اثنين فصاعدا، لأن التعاون فعل من فاعلين، وليس فعل واحد، ولا يسقط عن الاثنين فرض تعاونهما على البر والتقوى انتظار ثالث).[1]
فكان الواجب إقامة الجماعة لكل واجب لا يتحقق إلا بها، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكذلك يجب إقامة إمام عام وهو الأصل وتجب طاعته والجهاد معه، فإن تعذر ذلك فالواجب أن يكون لكل جماعة مجاهدة أمير منها، كما جاء في الحديث (إذا كنتم في سفر فأمروا أحدكم).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٢٨/٣٩0 [يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم)، فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة] انتهى كلام ابن تيمية.
ولا حرج في البيعة للأمير الخاص لجماعة أو حزب أو مجموعة من باب الاستيثاق والتعاهد، كما فعل عكرمة ابن أبي جهل يوم اليرموك حين دعا الصحابة من يبايعه على الموت (فبايعه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين).[2]
وكذا فعل الصحابة وأهل المدينة يوم الحرة حين خرجوا على يزيد وخلعوا بيعته، واختاروا عبد الله بن حنظلة الغسيل أميرا عليهم، وكانوا يبايعون ابن حنظلة على الموت.[3]
وقد بايع أهل بغداد من الفقهاء والمحدثين سنة 231هـ الإمام أحمد بن نصر الخزاعي على الأمر بالمعروف وخلع الواثق، كما بايع العامة والده سنة 201 هـ، على الأمر بالمعروف زمن فتنة الأمين والمأمون، كما قال ابن كثير في كتابه البداية ١٠/ ٣٣٤ (ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وفيها كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه، وكان جده مالك بن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس، وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة، وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث، وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد، وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها، فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداد، وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي، وآخر يقال له طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة، وجماعات غزيرة، فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها... وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العالمين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسمع الحديث من حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وهشام بن بشير، وكانت عنده مصنفاته كلها، وحدث عنه يحيى بن معين، وذكره يوما فترحم عليه وقال: قد ختم الله له بالشهادة، وأحسن يحيى بن معين الثناء عليه جدا، وذكره الإمام أحمد بن حنبل يوما فقال: رحمة الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له).
فهذا إمام من أئمة أهل السنة يبايعه أهل بغداد بالآلاف سرا على الأمر بالمعروف وخلع الخليفة لانحرافه، فلا ينكر عليه أحد، ويزكيه الأئمة، ويثنون على صنيعه، ويحكمون له بالشهادة!
وكذلك يشرع لجماعات الجهاد ومجموعات المناطق المحررة أن يقيموا قاضيا منهم، أو من غيرهم يحكم بينهم فيما يختلفون فيه بحكم الشرع، إذا كان الأمير أو القائد غير فقيه، كما قال الطحاوي في مشكل الآثار ١٢/ ٣٨ محتجا بحديث التأمير في السفر حيث قال (... عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان ثلاثة في سفر، فليؤمروا أحدهم" قال نافع: فقلت لأبي سلمة: فأنت أميرنا. قال أبو جعفر الطحاوي: ففي هذين الحديثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل الأمير الذي يؤمره الناس عليهم حيث يبعدون من أمرائهم، كأمرائهم عليهم في وجوب السمع منهم، والطاعة له فيما يأمرهم به أمراؤهم، إذا كانوا بحضرتهم، وإذا كان ذلك كذلك في الإمرة كان مثله في القضاء إذا حكم الرجلان المتنازعان في الشيء حكما بينهما فيما يتنازعان فيه فأمر ذلك الحكم فيما حكماه فيه، كالحكم عليهما فيما يحكم به عليهما الحكم الذي جعله إمامهما الذي إليه تولية الحكام عليهما فيما يلزمهما من الحكم لهما وعليهما، وهذه مسألة قد تنازع أهل العلم فيها , فقال طائفة منهم: ما حكم به ذلك الحكم بين اللذين حكماه، ثم رفع إلى الحاكم الذي جعله الإمام للناس حاكما، تأمل ذلك، فإن وافق ما يراه فيه، أمضاه، وإن خالف ما يراه فيه، وإن كان غيره من العلماء يراه رده، وممن كان يذهب إلى ذلك من أهل العلم أبو حنيفة وأصحابه، ومنهم من قال: ليس للحاكم المرفوع ذلك الحكم إليه رده، ولا إبطاله، إلا أن يكون خارجا من أقوال أهل العلم جميعا، فيرده ويبطله، وأما إذا لم يكن كذلك، فليس له رده، ولا إبطاله، وكان عليه أن يمضيه كما يمضي حكم حاكم كان قبله من الحكام، وممن كان يقول ذلك من أهل العلم ابن أبي ليلى وفقهاء المدينة، وقد كان الشافعي قال القولين جميعا، وكان أولى القولين عندنا في ذلك وأشبههما بالحق ما قاله ابن أبي ليلى وأهل المدينة فيه لإجماعهم، ومن خالفهم على ما يوجب ذلك، وذلك أنا رأيناهم لا يختلفون أن ذينك الرجلين لو أرادا بعدما كان من ذلك الحكم ما كان من الحكم بينهما، رد ذلك الحكم عنهما، أو أراده أحدهما قبل أن يصير إلى الحاكم أن ذلك ليس لهما ولا لواحد منهما، إذ كان قد لزمهما بحكم الحكم فيه بينهما بما حكم بينهما فيه، ولما كان ذلك كذلك في لزومه إياهما قبل أن يصير إلى الحاكم، ثم صار إلى الحاكم، وهو لازم لهما، وكان سبيل الحكام فيما يتناهى إليهم مما قد لزم قبل ذلك شده لا إبطاله، وجب عليه بذلك شد ما كان من ذلك الحكم بين ذينك الرجلين، وإمضاؤه بينهما كما يمضي حكم حاكم حكم بينهما من حكام الأئمة الذين يولونهم الأحكام بين الناس) انتهى كلام الطحاوي.
ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعية التحكيم، وأن يختار الناس أو بعضهم من يحكم بينهم فيما يتنازعون فيه، إذا كان عدلا - حتى لو لم يكن ذا سلطة ولا علم شرعي - وإنما اختلف أهل العلم في الحكم الذي يحكم به هل ينفذ مطلقا، أو لا ينفذ إلا إذا راجعه القاضي الشرعي حال وجوده، فرجح الطحاوي قول الجمهور وهو نفاذ حكمه ولزومه مطلقا، ولا يحق لغيره إبطاله، إلا في حال واحدة وهي إذا كان حكمه خطأ بلا خلاف، لمخالفته النص والإجماع، أما إذا كان له وجه من الصحة ووافق قول بعض أهل العلم، فلا يبطل حكمه.
البيعة الخاصة للجماعات والأحزاب:
وإذا تقرر ذلك في وجوب أو استحباب أن يكون لكل مجموعة أو جماعة أو حزب قيادته، وأن يكون لكل مجموعة في الجهاد أميرها الذي ينظم أمورها ويفصل عند الخلاف بينها، فجائز له أخذ البيعة منهم على السمع والطاعة أو على الجهاد أو على الإصلاح والأمر بالمعروف ونحو ذلك مما هو مشروع، ولهم أن يتعاهدوا على القيام بالواجب والمشروع، كما لهم أن يتبايعوا على الموت في القتال، ولا حرج فيما يكون بينهم من تحزب مشروع وتناصر بالحق وتحالف على القيام بالعدل، وقد جاء في الحديث (شهدت حلفا في الجاهلية لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت، وكان على نصرة المظلوم)، ويحرم عليهم أن يتحزبوا لجماعتهم أو حزبهم أو كتائبهم المجاهدة بغير حق، ولا أن يفرطوا بحقوق المسلمين العامة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ١١/ ٩٢ (وأما لفظ " الزعيم " فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى: {ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم} فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال هو زعيم؛ فإن كان قد تكفل بخير كان محمودا على ذلك، وإن كان شرا كان مذموما على ذلك. وأما "رأس الحزب" فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزبا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبك بينأصابعه. وفي الصحيح عنه أنه قال (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله)، وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال (انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل: يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال: تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه)، وفي الصحيح عنه أنه قال (خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه؛ ويعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس؛ ويجيبه إذا دعاه، ويشيعه إذا مات)، وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه)، فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا). وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا؛ وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)، وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال (ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: صلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين).
وقال أيضا في الفتاوى ٣٥/ ٩٣ عن حكم التحالف بين الجماعات وما يسوغ وما لا يسوغ (تنازع الناس هل يشرع في الإسلام أن يتآخى اثنان ويتحالفا كما فعل المهاجرون والأنصار؟ فقيل: إن ذلك منسوخ، لما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة)، ولأن الله قد جعل المؤمنين إخوة بنص القرآن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يسلمه، ولا يظلمه، والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه)، فمن كان قائما بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه، وإن لم يجر بينهما عقد خاص؛ فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بقوله {إنما المؤمنون إخوة}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (وددت أني قد رأيت إخواني)، ومن لم يكن خارجا عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك، فيحمد على حسناته؛ ويوالى عليها، وينهى عن سيئاته، ويجانب عليها بحسب الإمكان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما قال: تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه)، والواجب على كل مسلم أن يكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته: تابعا لأمر الله ورسوله. فيحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي من يوالي الله ورسوله، ويعادي من يعادي الله ورسوله، ومن كان فيه ما يوالى عليه من حسنات وما يعادى عليه من سيئات عومل بموجب ذلك، كفساق أهل الملة؛ إذ هم مستحقون للثواب والعقاب، والموالاة والمعاداة، والحب والبغض؛ بحسب ما فيهم من البر والفجور، فإن {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} ... والمؤاخاة المحرمة وأمثالها مما يكون فيه تعاون على ما نهى الله عنه كائنا ما كان: حرام باتفاق المسلمين، وإنما النزاع في مؤاخاة يكون مقصودهما بها التعاون على البر والتقوى، بحيث تجمعهما طاعة الله، وتفرق بينهما معصية الله، كما يقولون: تجمعنا السنة، وتفرقنا البدعة، فهذه التي فيها النزاع. فأكثر العلماء لا يرونها، استغناء بالمؤاخاة الإيمانية التي عقدها الله ورسوله؛ فإن تلك كافية محصلة لكل خير؛ فينبغي أن يجتهد في تحقيق أداء واجباتها؛ إذ قد أوجب الله للمؤمن على المؤمن من الحقوق ما هو فوق مطلوب النفوس، ومنهم من سوغها على الوجه المشروع ....
وبالجملة فجميع ما يقع بين الناس من الشروط والعقود والمحالفات في الأخوة وغيرها ترد إلى كتاب الله وسنة رسوله، فكل شرط يوافق الكتاب والسنة يوفى به، و (من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل؛ وإن كان مائة شرط. كتاب الله أحق، وشرطه أوثق) فمتى كان الشرط يخالف شرط الله ورسوله كان باطلا مثل أن يشترط أن يكون ولد غيره ابنه، أو عتق غيره مولاه، أو أن ابنه أو قريبه لا يرثه، أو أنه يعاونه على كل ما يريد، وينصره على كل من عاداه سواء كان بحق أو بباطل، أو يطيعه في كل ما يأمره به، ونحو ذلك من الشروط، وإذا وقعت هذه الشروط وفى منها بما أمر الله به ورسوله؛ ولم يوف منها بما نهى الله عنه ورسوله، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وفي المباحات نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه، وكذا في شروط البيوع، والهبات، والوقوف، والنذور؛ وعقود البيعة للأئمة؛ وعقود المشايخ؛ وعقود المتآخيين، وعقود أهل الأنساب والقبائل، وأمثال ذلك؛ فإنه يجب على كل أحد أن يطيع الله ورسوله في كل شيء؛ ويجتنب معصية الله ورسوله في كل شيء؛ ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ويجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل شيء، ولا يطيع إلا من آمن بالله ورسوله).
الفرق بين البيعة الخاصة والعامة :
ولا خلاف في أن البيعة الخاصة ليست كالبيعة العامة، ولا تأخذ كل أحكامها، بل بينهما فروق كما هو الحال في إمارة السفر وإمارة الجيش ونحوهما من الإمارات الخاصة، وذلك من وجوه :
الأول: أن البيعة العامة واجبة على الأمة للخليفة والإمام العام في دار الإسلام، فيجب على الأمة إقامة الإمام العام، ويجب عليها البيعة والسمع والطاعة له، واعتقاد ولايته وإمامته، كما في الحديث الصحيح (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وقد سئل الإمام أحمد عن هذا الحديث والمراد منه فقال (أتدري من ذاك؟ ذاك الإمام الذي يجمع المسلمون عليه يقولون كلهم هذا هو الإمام)، وهي البيعة التي قال عنها ابن عمر (والله لا أمنع بيعتي في جماعة ولا أبذلها في فرقة)، فإذا افترقت الأمة إلى دول فلا تجب البيعة على الأمة، وإنما تجوز البيعة الخاصة لمن قام بالولاية الشرعية وأحكامها في كل بلد ولا تجب على كل أحد، فقد كان ابن عمر في مكة وتحت ولاية ابن الزبير وهو خليفة بايعه أكثر البلدان، ولم يقر ابن عمر ولا ابن عباس له بالولاية لعدم اجتماع الأمة عليه، حيث نازعه أهل الشام!
وكذلك تجوز البيعة الخاصة للجماعة على القيام بأداء فروض الكفاية كالجهاد والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في الأرض، ولا تجب هنا بل هي بيعة جائزة أو مستحبة في أحسن أحوالها.
الثاني: أن البيعة الخاصة لا تلزم إلا من التزمها، ولا تجب على عموم الأمة، فالبيعة الخاصة للجماعات لا تلزم إلا أفرادها حال وجودهم معها، فإن تركوها لسبب مشروع فلا حرج عليهم، وهي كإمارة السفر مؤقتة بالسفر، وإمارة الجيش مؤقتة بالحرب، فإذا انتهى السفر والحرب، أو ترك بعض المسافرين أو المقاتلين الرفقة للجماعة المسافرة والفصائل المقاتلة، فليس للأمير الذي اختاروه في السفر، أو الأمير في الحرب طاعة عليهم، بعد تركهم السفر والحرب، وكذلك الحال للجماعات والأحزاب فليس لها على الأفراد طاعة حال تركهم إياها، فضلا عن طاعة من ليس معها أصلا!
وهذا بخلاف البيعة العامة للإمام الشرعي فليست مؤقتة، ولا يحل التفصي منها، ولا الخروج عن الجماعة العامة وهي الأمة، ولا عن طاعة الإمام العدل الذي اختارته بالشورى والرضا.
فمن استحل فرض طاعة جماعته أو فصيله الجهادي على الأمة أو بعضها بغير وجه حق وبلا رضا الأمة وشوراها، فقد طغى وبغى وخرج عن حد الاستقامة التي أمر الله بها ووقع فيما حرمه الله على رسوله وعلى المؤمنين في قوله تعالى {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا}، وكذا من استحل قتل أحد ترك جماعة من الجماعات أو حزبا من الأحزاب، أو استحل الاعتداء عليه، أو أخذ ماله بدعوى نقضه بيعة الجماعة وخروجه عن الطاعة، فقد افترى ظلما عظيما وخرج عن حدود ما شرع الله لعباده من العدل والقسط، ودخل في دائرة العدوان والبغي في الأرض بغير الحق!
الثالث: أن البيعة الخاصة لا تنافي البيعة العامة، ولا تعارض حقوق الولاية العامة، ولا تؤثر في وجوب الطاعة بالمعروف للإمام العام إذا اختارته الأمة بالشورى، بل حق الإمام الشرعي العام أوجب، وولايته على الجماعات والأحزاب والفصائل وقادتها أنفذ، كما هو الحال مع أمراء القبائل ونقابات الأشراف وشيوخ المذاهب الفقهية ونحوها من الانتماءات الاجتماعية المشروعة، فكلها لا تخرج عن وجوب الطاعة للإمامة الشرعية العامة.
مشروعية طلب الإمارة للجماعة:
ولا حرج لمن تصدى لقيادة الجماعة إذا كان أهلا لها واختارته برضاها، وقد اصطلح المسلمون يوم مؤتة على تأمير خالد بن الوليد على الجيش باختيارهم، وكذا اختار أهل المدينة يوم الحرة عبد الله بن حنظلة الغسيل أميرا عليهم، وبايعوه على الإمارة، كما بايعوه على القتال.
وقد قال ابن القيم في زاد المعاد ٣/ ٥٨٣ في قصة وفد صداء (وفيها: جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفؤا، ولا يكون سؤاله مانعا من توليته، ولا يناقض هذا قوله في الحديث الآخر: (إنا لن نولي على عملنا من أراده) فإن الصدائي إنما سأله أن يؤمره على قومه خاصة، وكان مطاعا فيهم محببا إليهم، وكان مقصوده إصلاحهم ودعاءهم إلى الإسلام، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن مصلحة قومه في توليته فأجابه إليها، ورأى أن ذلك السائل إنما سأله الولاية لحظ نفسه ومصلحته هو فمنعه منها، فولّى للمصلحة ومنع للمصلحة، فكانت توليته لله ومنعه لله. وفيها: جواز شكاية العمال الظلمة ورفعهم إلى الإمام، والقدح فيهم بظلمهم، وأن ترك الولاية خير للمسلم من الدخول فيها، وأن الرجل إذا ذكر أنه من أهل الصدقة أعطي منها بقوله ما لم يظهر منه خلافه. ومنها: أن الشخص الواحد يجوز أن يكون وحده صنفا من الأصناف لقوله (إنّ الله جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت جزءا منها أعطيتك)، ومنها: جواز إقالة الإمام لولاية من ولاه إذا سأله ذلك. ومنها: استشارة الإمام لذي الرأي من أصحابه فيمن يوليه).
أحق الفصائل بالالتحاق بها في الجهاد:
وقد كثر السؤال عن أحق الفصائل بالالتحاق بها لمن أراد الجهاد في الشام، والصحيح أن الجهاد في الشام جهاد دفع وهو فرض عين على أهلها، وعلى من وراءهم فرض كفاية، فإن عجزوا عن الدفع تعين على الأمة كلها، وفرض العين يستوي فيه الرجال والنساء والكبار والصغار من المكلفين، وعلى كل قادر على القتال، ولا يشترط له أي شرط إلا القدرة، فلا تستأذن المرأة زوجها، ولا الابن والده، ولا المدين غريمه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى المصرية 4/ 508 (أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان)، وقال أيضا (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليها بلا إذن والد ولا غريم).
وفروض الأعيان لا تتفاضل من حيث الوجوب والأجر بجهة دون جهة، إلا بما يكون عليه حال المكلف حين أداء الفرض، فيراعى في ذلك أحوال المكلف نفسه، فحيثما كان أنشط في أداء الفرض وهو هنا الجهاد فذلك أفضل بحقه، فمن كان وجوده في القتال مع أهل بلده ومدينته وقبيلته أنشط له في جهاد الدفع فهو أفضل له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل فكان المهاجرون يقاتلون تحت رايتهم، وكان للأنصار رايتهم، وكان للقبائل راياتها كأسلم وغفار..الخ.
إذ لا فرق في الأجر أن يجاهدوا تحت راية المهاجرين أو راية الأنصار أو رايات قبائلهم، وإنما راعى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحوالهم وما يصلح لهم، لما عرف من ميل كل فريق لطائفته وقبيلته، وما يعتريهم من الحمية لبعضهم حين القتال، وكذلك كان حال جيوش الفتح الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين، وإذا كان ذلك في جهاد الفتح، فمن باب أولى جهاد الدفع، فلا يقال بأن القتال مع هذه الفئة خير من القتال مع تلك الفئة، إذ العبرة بأحوال المجاهدين ونياتهم، كما في الحديث (الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هو العليا فهو في سبيل الله)، فالعبرة بالنيات التي في القلوب، والإحسان في الأفعال على الوجه المشروع.
فكل مجاهد يختار من المجموعات والفصائل التي يجد أن وجوده معها أرفق به وأوفق لحاله، سواء في قريته، أو مدينته، أو مع أهل محافظته، أو مع المهاجرين، أو مع أهل مذهبه، أو جماعته، فإن لم يجد البعض إلا القتال وحده، أو لا يصلح له إلا أن يكون وحده جاهد وحده وجهاده صحيح، فالمقصود قيامه بالجهاد على الوجه الصحيح بحسب ما يصلح له.
فالمجاهدون جميعا على اختلاف فصائلهم يدخلون في عموم النصوص بلا خلاف، وقتيلهم شهيد بإذن الله، ولا فضل لأحد على أحد، إلا بصدق النية وحسن العمل.
ولا يشترط في جهاد الدفع نية غير نية دفع الظلم عن النفس والأرض والمال والعرض، كما في حديث (من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله فقتل فهو شهيد..)، وأما حديث (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فهذا جواب سؤال عمن يقاتل حمية أو ليرى مكانه وشجاعته، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، لا من يقاتل رياء وحمية، وليس فيه نفي الجهاد والشهادة عن المظلوم إذا قاتل دفاعا عن نفسه وأهله وأرضه وماله وعرضه، إذ كل ذلك مشروع وحق، وكله يدخل في كلمة الله العليا التي جاءت بالعدل والقسط، ولا شك بأن الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا وليظهر دينه في الأرض هو أشرف الجهاد وأعلاه، ومن ظهور كلمة الله نصرة المستضعفين ورفع الظلم عن المظلومين حتى ولو لم يكونوا مسلمين كما قال تعالى {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين} فجعل الدفاع عن المستضعفين كالقتال في سبيل الله، ومن القتال في سبيل الله، بخلاف القتال رياء وحمية.
ولا يبطل جهاد الدفع بدعوى أن من يقاتلون يدافعون عن الدنيا ولا يقصدون الدين، إذ جهاد الدفع أصلا مشروع لحفظ الضروريات وهي النفس والعرض والمال والدين، فلو لم يستحضر المظلوم نية إلا كونه مظلوما ويدفع الظلم عن نفسه فهو مجاهد فإن قتل فهو شهيد.
كما لا يبطل الجهاد بدعوى أن الجهاد يجب أن يكون عن الدين ومن أجله، لا من أجل الأرض والوطن، فهذا قول باطل بالإجماع، إذ لدار الإسلام من الحرمة كما للدين، ولهذا أجمع العلماء على أنه إذا احتل العدو شيئا من دار الإسلام وجب النفير إليه وجهاده وبذل النفوس والأموال لتحريرها، ولدفعه عن أرض الإسلام، إذ الأرض هي محل الاستخلاف للمؤمنين، كما قال تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}، فلا ظهور للدين دون وجود الأرض التي يتحقق فيها الاستخلاف والأمن للمسلمين.
والمقصود بأن الجهاد واجب دفاعا عن الدين وعن الدنيا التي لا يقوم الدين أصلا إلا بها.
فكل مقاتل في سوريا اليوم مجاهد في {سبيل الله والمستضعفين} سواء كان يدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه أو أرضه أو دينه أو قومه، أو يقاتل لإقامة حكم إسلامي ولتكون كلمة الله هي العليا وهو أعلاها وأشرفها.
مشروعية اتخاذ الراية واللواء:
ولا خلاف بين الفقهاء على استحباب اتخاذ الفصائل والكتائب المجاهدة رايات تميزها عن غيرها وتعرف بها، فقد جاء في الحديث الصحيح في البخاري في غزوة فتح مكة قول العباس للزبير (هاهنا أمرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في شرحه للحديث (قال المهلب: وفي حديث الزبير أن الراية لا تركز إلا بإذن الإمام، لأنها علامة على مكانه فلا يتصرف فيها إلا بأمره، وفي هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحرب، وأن اللواء يكون مع الأمير أو من يقيمه لذلك عند الحرب ، وقد تقدم حديث أنس " أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب").
ففي هذه الأحاديث وغيرها استحباب اتخاذ الراية واللواء في الحرب، ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعية ذلك واستحبابه، وليس ذلك واجبا، ولم يقل أحد من أهل العلم بالوجوب، ولا يؤثر عدم وجود راية أو لواء في صحة الجهاد، لا في جهاد الطلب، فضلا عن جهاد الدفع، فلو جاهد الإنسان وحده لكان جهاده صحيحا، وكذا لو جاهدت مجموعة في سبيل الله دون أن يكون لها راية فجهادها صحيح .
والفرق بين اللواء والراية هو أن اللواء يكون بين يدي الإمام والأمير العام للجيش، بينما الراية تكون للفصائل والكتائب، فاللواء لها واحد، والرايات قد تتعدد بعدد الفصائل.
لون الراية واللواء:
كما لا خلاف في جواز أن تكون الراية أو اللواء بأي لون أو شكل كان، فقد جاءت أحاديث عدة في لون راية النبي صلى الله عليه وسلم فتارة سوداء واللواء أبيض، وتارة نمرة سوداء فيها خطوط بيضاء، كما في سنن الترمذي (كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض) وتارة صفراء كما في سنن أبي داود (رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء).
قال ابن القيم في زاد المعاد (ففيها: استحباب عقد الألوية والرايات للجيش، واستحباب كون اللواء أبيض، وجواز كون الراية سوداء من غير كراهة).
وجاء في البحر الرائق في فقه الحنفية (وفي الظهيرية وينبغي أن تكون ألوية المسلمين بيضاء، والرايات سوداء، واللواء للإمام، والرايات للقواد، وينبغي أن يتخذ لكل قوم شعارا حتى إذا ضل رجل عن رايته نادى بشعاره وليس ذلك بواجب، والشعار العلامة، والخيار إلى إمام المسلمين إلا أنه ينبغي له أن يختار كلمة دالة على ظفرهم بالعدو بطريق التفاؤل، ويكره للغزاة اتخاذ الأجراس في دار الحرب؛ لأنه يدلهم على المسلمين أما في بلاد الإسلام فلا بأس به، ولا بأس بهذه الطبول التي تضرب في الحرب لاجتماع الناس واستعدادهم للقتال؛ لأنها ليست بطبلة لهو وينبغي أن يكون أمير الجيش بصيرا بأمر الحرب..).
وجاء في كتاب مطالب أولي النهى في فقه الحنابلة (ويعقد لهم الألوية البيض، وهي: العصابة تعقد على قناة ونحوها) ، قال صاحب "المطالع" : اللواء راية لا يحملها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش) قال ابن عباس (كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض) رواه الترمذي، وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (دخل مكة ولواؤه أبيض) رواه أبو داود، وظاهر "المقنع " وصرح في " المحرر " أنها تكون بأي لون شاء لاختلاف الروايات (و) يعقد لهم (الرايات وهي : أعلام مربعة ويغاير ألوانها، ليعرف كل قوم رايتهم) ، لقوله صلى الله عليه وسلم للعباس حين أسلم أبو سفيان : (احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها، قال : فحبسته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها)) .
وقال الماوردي في كتابه الحاوي في فقه الشافعية (8/1168) (وأما الشعار، فهي العلامة التي يتميز بها كل قوم من غيرهم في مسيرهم وفي حروبهم، حتى لا يختلطوا بغيرهم ولا يختلط بهم غيرهم، فيكون ذلك أبلغ في تضافرهم لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للمهاجرين شعارا، وللأنصار شعارا. ويتخذون علامة من ثلاثة أوجه:
أحدها: الراية التي يتبعونها ويسيرون إلى الحروب تحتها فتكون راية كل قوم مخالفة لراية غيرهم .
والثاني: ما يعلمون به في حروبهم، فيعلم كل قوم بخرقة ذات لون من أسود، أو أحمر، أو أصفر، أو أخضر، تكون إما عصابة على رءوسهم، وإما مشدودة في أوساطهم.
والثالث: النداء الذي يتعارفون به فيقول كل فريق منهم يا آل كذا، أو يا آل فلان، أو كلمة إذا تلاقوا تعارفوا بها ليجتمعوا إذا افترقوا ويتناصروا إذا أرهبوا، فهذا كله وإن كان سياسة ولم يكن فقها فهو من أبلغ الأمور في مصالح الجيش وأحفظها للسير الشرعية).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح عن حديث نافع بن جبير وقول العباس للزبير (ههنا أمرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية) (وفي هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحرب، وأن اللواء يكون مع الأمير أو من يقيمه لذلك عند الحرب، وقد تقدم حديث أنس "أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب" الحديث..).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار (قوله (راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض) اللواء بكسر اللام والمد هو الراية ويسمى أيضا العلم، وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحمل على رأسه، كذا في الفتح، وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح، وقيل: اللواء دون الراية، وقيل اللواء: العلم الضخم، والعلم: علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، وجنح الترمذي إلى التفرقة فترجم الألوية وأورد حديث جابر المتقدم، ثم ترجم الرايات وأورد حديث البراء المتقدم أيضا، قوله : (من نمرة) هي ثوب حبرة، قال في القاموس: النمرة بالضم النكتة من أي لون كان، والأنمر: ما فيه نمرة بيضاء وأخرى سوداء، ثم قال : والنمرة: الحبرة، وشملة فيها خطوط بيض).
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي شرح الترمذي ((باب ما جاء في الألوية) .. قوله : (كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم سوداء) قال ابن الملك: أي ما غالب لونه أسود بحيث يرى من البعيد أسود لا أنه خالص السواد يعني لما سبق أنها كانت من نمرة، (ولواؤه أبيض) وروى أبو داود من طريق سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم : رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، ويجمع بينه وبين أحاديث الباب باختلاف الأوقات).
وعليه فلا حرج شرعا من اتخاذ أعلام البلدان رايات للحرب، كالعلم السوري للجيش الحر، للتمييز بينه وبين علم النظام المجرم وعصابته، وقد تحقق في علم الثورة ما ليس لغيره من جهة أنه صار علم الشعب السوري الثائر كله على اختلاف أطيافه فهو أكثر تمييزا للثورة وأوضح شعاراتها، وهو المقصود أصلا من اتخاذ الأعلام للتمييز والتعارف وإثارة الحمية كما نص عليه الفقهاء من أي لون وبأي شكل، وكلها من باب السياسة الشرعية كما نص عليه الماوردي في الحاوي.
وقد ميّز خالد بن الوليد يوم اليمامة (المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وجعل كل بني أب تحت رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرف الناس من أين يؤتون[4]) .
معنى حديث الراية العمية:
وأما حديث (من قاتل تحت راية عمية فمات مات ميتة جاهلية) وفي رواية (راية عمياء)، فالمراد بالراية العمية هي القضية والدعوة الجاهلية، والقتال غير المشروع، سواء اتخذ المقاتلون فيه راية أو لم يتخذوا، وسواء اتخذوا علم الثورة أو علما موسوما بشعار التوحيد، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فلو رفع المجاهدون شعار التوحيد في قتال محرم غير مشروع كالاقتتال فيما بينهم حمية وعصبية، فإنه يدخل في عموم النص (من قاتل تحت راية عمية)، ولا يغير من الحكم شيئا أن يرفع فيها راية التوحيد، بل قد تكون الحرمة أشد من جهة التغرير بالناس واتخاذ راية التوحيد في قتال محرم وظلم وعدوان ينافي شعار التوحيد الذي جاء بالعدل والقسط، كما في الحديث الصحيح حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل لليمن فقال له (فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله .. واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، فجعل غاية التوحيد العدل ورفع الظلم، وقد سئل أحمد بن حنبل عمّن قُتل في عميّة (قال: الأمر الأعمى العصبية لا يستبين ما وجهه، وقال إسحاق: إنما معنى هذا في تحارب القوم وقتل بعضهم بعضاً، يقول من قتل فيها كان هالكا).
قال النووي (قالوا هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور، قال إسحاق بن راهويه هذا كتقاتل القوم للعصبية).
وقال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم 1/73 (وسمى الراية عمياء لأنه الأمر الأعمى الذي لا يدرى وجهه، فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال كهذا).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة