في رحاب البيت
من ذي الحجة هبت نسمات، فتعطّر الكون من نفحاتها، وفاح في القلوب شذى ريحانها، كيف لا وهي أيام مباركات فضّلها الله على سائر الأيام!! فما من أيام العمل الصالح أزكى وأحب إلى الله من هذه الأيام. وكيف لا تهتز النفوس وتشتاق الأرواح إلى أشرف وأطهر البقاع، إلى بيت جعله الله مهوى أفئدة المؤمنين، ومثابةً للناس وأمناً يترددون إليه ويرجعون عنه ولا يرون أنهم قضوا وطراً؟!
حجاج بيت الله الحرام لبسوا ملابس الإحرام وأقبلوا شُعثاً غبراً يصدحون بالتلبية الفريدة والهتاف الخالد ملء الحناجر والقلوب وقد اشتملوا بأردية التذلل والخضوع، وغسلوا وجوههم بقطرات الدموع، يشتكون إلى مولاهم بحاراً من الذنوب وهم يرددون «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك».
«لبيك اللهم لبيك» شعار المسلم وعزته... «لبيك اللهم لبيك» هي عند سَلَفنا انخلاع من الدنيا وشهواتها ورغباتها، فكانوا إذا أحرموا تغيرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم خوفاً من عدم القبول. فهذا علي بن الحسن رضي الله عنه لما أحرم واستوت به راحلتـه اصفرّ وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: ما لَكَ؟ فقال: أخشى أن يُقال لي: لا لبيك ولا سعديك! فلما لبّى غشي عليه، ووقع من على راحلته، ولم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه.. وكان القاضي شُرَيْح رضي الله عنه إذا أحرم كأنه حية صماء من كثرة الصمت والتأمل والإطراق لله عز وجل... قلوب ملأتها خشية الله واستشعرت عظمة الله، فلنتشبه بهم إن لم نكن مثلهم، إن التشبه بالكرام فلاح.
«لبيك اللهم لبيك».. ما أجملها من رحلة إيمانية عنوانها الحب والتآلف، والإخاء والترابط، والتوادّ والتراحم، الملتقى فيها عالمي والتشريع رباني، والمسلمون هناك كأسنان المشط فلا أنساب ولا ألقاب، ولا تمايز ولا تفاخر، بل كلهم عباد الله إخواناً يرددون نداءً واحداً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، هدفهم واحد، وقبلتهم واحدة، يتوجّهون إلى رب واحد، ويؤدون شعائر ومناسك واحدة.
رحلة الحج تهذيب للنفوس وتطهير للقلوب، وغسل لأدران الذنوب. رحلة يحياها المسلم بقلبه وروحه ومشاعره فيكتسب الأخلاق الكريمة، والقيم الرفيعة، والمبادئ السمحة (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: 197).
والحج شعائر تُعظَّم وحرماتٌ تقدَّس (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32).
والحج أفضل الأعمال إلى الله تعالى بعد الإيمان والجهاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» (متفق عليه)... والحج يعدل الجهاد في سبيل الله لمن لا يقدر عليه، فهو جهاد الضعيف والمرأة، وهو جهاد بذل وعطاء ومرابطة في ميدان الأجر والثواب؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: «لا، لَكُنّ أفضل الجهاد: حج مبرور» (رواه البخاري)... وأَعظِم بهذا الحج من ثواب، إذ قال صلى الله عليه وسلم: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (متفق عليه).
ومن أجل أن يكون الحج مبروراً يجب ألا يخالطه إثم ولا رياء ولا سمعة، ولا فسوق ولا عصيان... الحج المبرور أن يزداد الحاج صلاحاً وتقوى، وبِرّاً وخيراً... والحج المبرور لخّصه الحسن البصري رضي الله عنه بقوله: أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة.
وحجاج بيت الله هم وفد الله وأضيافه، ومن وفد على الله أكرمه وأجزل في إحسانه؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحجاج والعمّار وفد الله إن دَعَوْه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم» (رواه النسائي وابن ماجه)..
وحتى تنال وفود الله من كرم الله ومحبته وقربه، ضجت بالتكبير والدعاء، ووقفت في صعيد عرفات، وما أدراكم ما عرفات!! هناك تمتزج دموع المذنبين، وأنين المحبين، وتتعانق أصوات الملبين المستغفرين! ما أطيب البكاء في عرفات! وما ألذ التعب هناك! وما أروح على النفس الزفرات! وما أبرد على القلب العبرات!! عرفة... ما أعظمه من موقف... ويومه أشرف يوم طلعت عليه الشمس، هو يوم رحمة وبركة، ويوم توبة وإنابة، ويوم دعاء وعطاء.. يومٌ الوقوف فيه أفضل الأعمال وأعظم الأركان، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» (رواه الإمام أحمد)... يوم ما رؤي الشيطان أَدْحرَ ولا أغْيَظَ ولا أحقر منه في هذا اليوم لما يرى من تَنَزّل الرحمات، حيث يتجلى الحق سبحانه لوفده وأحبابه، فيسمع دعاءهم، ويرحم عبرتهم، ويستجيب سؤلهم، ويغفر ذنوبهم، ويباهي ملائكته في الملأ الأعلى بهم؛ فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يومٍ أكثرَ من أن يُعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة؛ وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة».
أمّا من عجز عن أداء الحج فله بديلٌ ثوابه جزيل، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والباقية» (رواه مسلم)...
هنياً لكم قد نلتم العفو والرضا
وذكركم يوم القيامة يرفعُ
لبستم بهذا الحج تاج مثوبة
يضيء به الإيمان والأجر يلمعُ
طرحتم خطاياكم وعدتم وأنتم
من الذهب الإبريز أنقى وأنصعُ
وإن ذنوب المرء مهما تعاظمت
لأعظم منها عفو ربّي وأوسعُ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة