الديمقراطية والشورى
السياسة أو الحكم أمور لابد منها للبشر لتسير أمورهم على أفضل ما يمكن، لا يستطيع الناس الابتعاد عن هذا الأمر أو الإغماض عليه أو التظاهر بعدم أهميته، فالحياة الاجتماعية للإنسان تقتضي أن يكون لها ناظم ينظمها وإلا تحولت إلى فوضى ووحشية، هذا أمر متفق عليه بين البشر بشكل عام، يقول أحدهم: إذا كان هناك اكتشافات علمية كان لها أكبر الأثر في حياة الإنسان ( الكهرباء والبنسلين مثلاً ) فإن الاكتشاف الأصعب هو إذا عرفنا فن سياسة البشر
اهتم الإسلام بهذا الموضوع اهتماماً بالغاً لأن الغاية هي سعادة الإنسان ما أمكن ذلك، وهي سعادة نسبية في هذه الحياة الدنيا ولكنها خير من الجهل والفوضى، وقد درجت دعوة القرآن العظيم على أن تجعل الفساد مشنعاً به حيثما كان، والتحذير من كل أمر يرتبط بالفساد في الأرض، قال تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) فكل ما هو فساد في العمران الأرضي أو قصور عن البلوغ بالإنسان الى المستوى اللائق به هو منهي عنه في الإسلام .
يذكر القرآن الكريم العلماء الربانيين، قال المفسرون: هم العلماء الذين يلون أمور الناس، يربونهم ويصلحون من شأنهم، والرباني هو الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة . ذلك لأن الجهل بالسياسة يؤدي إلى شقاء البشر، فخطأ الجاهل بالطب يودي بشخص واحد، أما الخطأ في السياسة فإنه يودي بالأمة كلها . قال تعالى: "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون" آل عمران / 79
يتحدث القرآن عن الملأ وهم كبار القوم الذين يصدون عن سبيل الله ويحتقرون أتباع الأنبياء، أليس هذا تنبيه على فئة من المجتمع هي رأس الحربة في محاربة الدين ونشر الفساد في الأرض، هذه الفئة موجودة في كل زمان ومكان، إنها الطبقة المترفة التي تسخر كل ما عداها لأهوائها وتتعاون مع أعداء الأمة في سبيل مصالحها. قال تعالى عند ذكر قصة شعيب عليه السلام مع قومه: "قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا" الأعراف / 88 .
إن الحديث عن الأمر السياسي وأهميته لابد أن يجر للكلام عن الحرية ومجالاتها، والحديث عن الديمقراطية يسبقه الحديث عن الحرية، فمذهب الليبرالية هو (ايديولوجيا) الديمقراطية، ونحن هنا نتحدث عن الديمقراطية كنمط للحكم وثقافة سياسية معينة في بلاد ارتضت هذا النموذج، بصرف النظر عن مخالفتها عندنا للأسس الإسلامية التي تكون فيها الشريعة هي الحاكمة، والاجتهاد ضمن ثوابت الشريعة، والسيادة للشريعة وليست للأكثرية العددية. إن هذه الكلمة (الحرية) هي من أكثر الكلمات ترداداً في هذا العصر، ومهما كثرت التعريفات لها وكثر الحديث عن ضوابطها ومجالاتها فليس هناك عاقل أو رجل فكر يرى أن يكون الإنسان حراً في تصرفاته يفعل ما يشاء كيف يشاء وفي كل وقت، فهي إذن حرية محددة بالفطرة وسنن الله في الخلق. يقول الدكتور زكي نجيب محمود: "بل كلما ازداد القيد صعوبة ازدادت الحرية، فالشاعر حين ينظم هو أكثر حرية ممن يقذف الكلام في حديث عابر والصائم أقوى شعوراً من المفطر، فقمة الحرية هي قدرة الإنسان على إلجام نفسه ليحكمها بدل أن تحكمه" (1)
ليس كل الناس يدركون أهمية ومعنى الحرية، فلا بد من تعليمهم وإشعارهم أنها شيء راق وأصيل، وهي وسيلة لتربية الأجيال الذين يتحملون المسؤولية، فالبشر سجناء مطامحهم الدنيوية ورغباتهم الشهوانية، وعندما نتكلم عن الحرية بشكل عام فإنها تعادل الإنسانية وهذا ما قصده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين قال: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"
الحرية في الإسلام تنظر إلى المعنى الأصيل في اللغة العربية، فالحر هو ضد الزائف، والإنسان الحر ليس هو الذي لا يملكه أحد، فهذا جزء من الكرامة الإنسانية، ولكنه الإنسان الذي تتصور فيه الفطرة البشرية متغلبة على الطبيعة الحيوانية.
الحرية في الإسلام هي أحد عناصر التكليف الإنساني، لأنها هي المحرك للإرادة البشرية التي كلفت بحمل الأمانة، فالحرية الحقيقية هي في كمال العبودية، ليتخلص الإنسان من رق العبودية لغير الله، ويتخلص من المطامح والرغبات التي تستعبده.
وإذا كان الحديث عن الحرية السياسية، فإن إنهاء الاستبداد هو عامل مهم لإقامة الدين، والمجتمع الإسلامي زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مجتمعاً حراً يتساوى أفراده فيما بينهم، كان المسلم في هذه الحرية يتفاوض مع الآخرين في مسائل كبيرة، يتفاوض في مصير قطر كالشام أو مصر وبكل بساطة، لأنه كان يشعر من نفسه أنه أهل للتحدث في عظائم الأمور.
عندما تذكر كلمة الحرية أمام بعض الناس فكأنه أصيب بلدغة، لأن خياله يذهب به دائماً إلى حرية الفساد الأخلاقي أو الفوضى السياسية، والحالتان مرفوضتان طبعاً حتى من بعض عقلاء الأمم الأخرى، وفي الوقت نفسه فإن عبادة الحرية مرفوضة أيضاً، كما كان الحال عند فلاسفة ما يسمى عصر الأنوار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا، عندما وسموا القيود التي هي ضرورية للإنسان بميسم الشناعة.
بعض الناس يخافون من الحرية أو يهربون منها لأنهم يخافون من المجهول، وهذا بسبب ضعف التفكير، وكأنهم لطول عهدهم بالاستبداد نسوا شيئاً اسمه الأمن والأمان، وهل الحديث عن الكرامة الإنسانية هو من قبيل الترف الفكري أم هو من لباب الشريعة؟
إذا كانت الحرية واجبة على الإنسان وليست حقاً له وحسب، أي يجب عليه أن لا يُستعبد من بشر مثله، وإذا كان الحكم أو الدولة ضرورة لابد منها فهل الديمقراطية بآلياتها وليبراليتها هي الطريقة المثلى للحكم ؟ وهل هي الصورة الوحيدة ولا يوجد غيرها ؟ الغرب رفع الديمقراطية كحل كوني لمشكلات العالم أجمع بصرف النظر عن تاريخ هذا العالم وقيمه الثقافية، وكأن الغرب يقول: الديمقراطية خير مطلق للشعوب قاطبة. (2)
لا شك أن الديمقراطية هي عقلنة للحكم، البشر ينظمون حياتهم تنظيما يتوافقون عليه، وهي تجربة إنسانية مضادة للاستبداد الذي أفسد الحياة السياسية والفكرية والاجتماعية للإنسان، هذا الاستبداد أحرق الأخضر واليابس، وجفف الضرع كما جفف المآقي، وإن واقع الشعوب الواقعة تحت نير هذا الاستبداد خير شاهد على ذلك. فقد سحقت الحكومات الاستبدادية شخصية الفرد وشوهت أخلاقه.
ما هي الديمقراطية؟
إذا أردنا تبسيط المصطلح إلى أقصى ما يمكن فإن الديمقراطية هي سلطة الشعب أو سلطة الانسان. وهل هي محض آلية للحكم، أو هل هي قضية إجرائية عارية عن كل منظور اجتماعي أو فكري؟ إن (أيدولوجيا) الديمقراطية هي (الليبرالية) فهي ليست مجرد قضية إجرائية، بل ذات مضمون فكري، إنما نمط حياة، هي اتفاق الناس على إطار معين من القيم. هي اختراع بشري لإدارة شؤون الناس الذين يختارون من يحكمهم ولهم الحق في عزله إذا حاد عن المبادئ المتفق عليها، وذلك عن طريق ممثليهم المنتخبين في البرلمان، وهي دولة قانون وليست على هوى الحاكم ومزاجه.
هذه الديمقراطية وإن بدأت بسيطة وناقصة في (أثينا) حيث كان الاختيار للرجال فقط ولا يحق للنساء(3) ولا العبيد ولا البرابرة (غيراليونانيين) الانتخاب، بل يقول أحد الباحثين أن الاختيار كان بالقرعة وليس بالانتخاب.
وكان لكل مدينة نصيب، ولكن قبيل نصيب والخطباء لهم الدور الأكبر في تكوين الغالبية (كما في أمريكا اليوم حيث الإعلام له دور كبير في نجاح الرئيس) ولكن هذه الديمقراطية تطورت مع الرومان (مجلس الشيوخ) ثم تطورت في أوروبا في العصر الحديث، حيث أنشأت المدن الايطالية مجالس للحكم بمشاركة الجمهور. ثم استقرت وتطورت في بريطانيا ثم باقي دول غرب أوروبا وأمريكا. وكان من نتائجها الايجابية: تداول السلطة ومبدأ فصل السلطات، والقضاء المستقل وكثرة المؤسسات الأهلية، وتشجيع المبادرة الفردية، والبرلمان يمارس سلطة رقابية على الحكومة ورئيسها، أي على السلطة التنفيذية وهناك رقيب على البرلمان وهو القضاء (دستورية القوانين) ومن خلال الديمقراطية تحققت فكرة دولة الرعاية الاجتماعية والحقوق المضمونة للعامل والعاطل عن العمل وهذه الميزات الأخيرة هي من صلب الدين الاسلامي. الديمقراطية هنا هي ثقافة سياسية، نمط حياة كما ذكرنا، الفرد فيها ينتمي إلى مجتمع معين، يسمع صوته ولو بشكل غير مباشر وهو معني بالقرارات التي تؤثر على حياته. ومن ميزاتها أيضا أنها ليست مثالية لأنها تعترف بأخطائها وتجدد نفسها بين الفينة والأخرى، ومن مبدأ تداول السلطة يعتقد البريطانيون أنه من الضروري من وقت لآخر تغيير الحكومة، ليس الحكومة الفاشلة فقط، وإنما الناجحة أيضا لأن هذه الأخيرة إما أن تصبح غير فعالة مع الزمن أو تصبح مختالة مغرورة، فالتداول يجدد النخب ويبعث حياة جديدة في ورشة الدولة ومؤسساتها لأن طول احتكار السلطة يقسي جلدها، ويعدم الحساسية لقبول النقد.
رغم هذه المزايا للديمقراطية من حيث شكل الحكم والبعد عن الاستبداد ولكن هل هي وصفة سحرية تحل كل مشاكل الإنسان؟ وهل هي الحل الوحيد ولا يوجد غيرها؟ وهل نأخذها هكذا بعجرها وبجرها دون أن نحقق في درجة صحتها واتفاقها مع قيمنا وجوهر شخصيتنا؟ أليس من الأفضل أن تتعرض لمراجعة نقدية خالصة؟ وإذا كان الغربيون قد صلح معاشهم عليها فترة من الزمن "لاتفاق الناس فيها غلى قيم سياسية واقتصادية واجتماعية وفردية فالنائب المحافظ البريطاني لا يعتقد أن السماء ستسقط على الأرض إذا فاز حزب العمال ولكن الأمر سيختلف لو جاء حزب يخالف القيم المتفق عليها مخالفة جذرية"(4). ولقد احترموا قانونها لأنهم لم يجدوا أفضل منها حسب اجتهادهم السياسي كما قال رئيس وزراء بريطانيا (تشرتشل)، وإذا كان رئيس سنغافورة السابق (لي كوان يو) الذي يلقب بالكاهن الأكبر للقيم الآسيوية يرى أنه يجب تطوير صيغة للديمقراطية غير الصيغة الغربية، فما بالنا نحن المسلمين وكتابنا يقول (ان هذا القران يهدي للتي هي أقوم)، والسنة بين أيدينا ونملك ثروة عظيمة من الفقه والسياسة الشرعية، ألا نستطيع أن نجتهد في ايجاد نظام للحكم هو أقرب للعدل والرحمة والسعادة للإنسان من أي نظام اخر؟ خاصة وقد ظهر مع الزمن الكثير من عيوب الديمقراطية ونقدها أهلها قبل أن ينقدها الاخرون.
وإذا كان التقوقع على الذات ورفض كل ما عند الآخرين من إنجازات إدارية وسياسية هو تفريط في العقول، وتفريط في النهوض الحضاري، فإنه وبالمقابل يقال: إن التقليد السطحي وتبسيط الأمور ونقل كل ما عند الآخرين بعجره وبجره دون معرفة الظروف التي نشأت فيها الأفكار، وطبيعة الشعوب التي استقرت عندها المفاهيم، سوف يؤدي إلى حالة من التشوه في الفكر والتطبيق، وإن هذا النقل إنما يدل على نفسية الاعتماد على الحلول السهلة، تستورد الأفكار كما تستورد السلع دون تعب أو بذل مجهود، وهذا ما يسميه المفكر الجزائري مالك بن نبي (ذهان السهولة) الناتج عن التخلف الحضاري، فالديمقراطية ليست نباتاً في أصص من الفخار يمكن نقله لأي مكان، وربما يأخذه البعض للزينة وخداع الجماهير، لقد حلل ابن خلدون واقع الدولة الإسلامية واستمد ذلك من واقعنا ولم يستورده كما نفعل الآن.
عيوب الديمقراطية ونقائصها
1- المساواة:
إن الديمقراطية وكأنها تقول بالتشابه التام بين أفراد الشعب فهي تقدم الكم على النوع، أي تقدم صندوق أوراق الانتخابات على صندوق (الرأس) وهذه الطريقة تقضي على كل تجديد وتسد الطريق أمام كل موهبة وعبقرية كما يقول الفيلسوف الاسباني (سانتيانا) ففي الاعتماد على الكم لا تنتفع الأمة بأعظم رجالها، إنها تتركهم ولا يسمع بهم أحد، لأنهم قد لا يخوضون الانتخابات، أو يخوضونها ولكن هناك من هو أقدر منهم على الكلام المعسول أو أقدر مالا، ويكون النجاح حليفه، وقد ينتخب الشعب أكثر الناس بلاهة وبلادة، وقد ينتخبون الأكثر تملقاً ومداهنة(5) ولذلك يجب أن يحصر حق الترشح في أصحاب الخبرة والعلم والمقدرة، وبذلك نغلق باب المناصب الكبيرة في الدولة أمام الدجالين والمنافقين، وهذا ما يميل إليه (سانتيانا) حين يدعو إلى حكومة من أصحاب المواهب والشرف من الرجال، إنها ارستقراطية ولكن المجال فيها مفتوح للجميع(6) وإلى عام 1948م كان للمتخرج من الجامعة في بريطانيا صوتين وللعامة صوت واحد. ويقول المفكر السياسي البريطاني (لوك): "إن عمر الإنسان وامتلاكه للفضيلة يسبغان عليه أسبقية مشروعة".
إن المساواة بين أصوات الناخبين هو نوع من الظلم، لأن مساواة من يستحق بمن لا يستحق هو الظلم بعينه، وإن كان الأصل أن الناس سواء في اعتبار البشرية والحقوق العامة، مثل حق الحياة وحق العمل، والعدالة في القضاء، ولكن هذه المساواة لا تعني أن لا اختلاف بين الناس في الذكاء والعلم وفي المواهب، يقول العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور: "والمسلمون سواء في الصلوحية للمزايا والجزاء على ما يصدر من نفع، ولكن هناك استثناءات لهذه المساواة، مثل تفاوت العقول لإدراك المدركات ومنع مساواة الجاهل للعالم في التصدر للنظر في مصالح الأمة، ومثل الموانع الجبلّية، مثل منع مساواة المرأة للرجل فيما لا تستطيع عليه بموجب الخلقة، مثل إمارة الجيوش والخلافة"(7)
إن كثيرا من الناس لا يتجاوزون العاشرة من الناحية النفسية إذن هو طغيان المساواة أو عبادة المساواة وكأن هناك تشابه تام بين أفراد الشعب، يقول عالم الإجتماع والنفس (أريك فروم): "إذا أردنا أن يكون للإنسان رأي حقيقي وعن اقتناع، لا بد من توفر شرطين: معلومات كافية، ومعرفة أن لرأيه قيمة وأثرا، وإذا لم يتوفر هذان الشرطان فلن يختلف التصويت كثيرا عن التصفيق في مباراة رياضية."(8)
لا شك أن العدد له أهمية عندما يجتمع أصحاب الرأي والاختصاص فإذا اجتمع نفر من الأطباء وتشاوروا في قضية طبية فإن رأي الأغلبية له وجاهة واهتمام، وكذلك لو أن قادة عسكريين تشاوروا في أمر من أمور الحرب فإن للأغلبية اعتبار، وبنظرة عامة فإن الغالبية إذا لم تكن مقيدة بالقيم وبالأخلاق فقد تنجر من خلال الحشود الغوغائية إلى مصائب وبلايا، فجرائم الصرب بحق البوسنة كانت بأغلبية صربية، والحرية غير المقيدة قد تصل بالإنسان إلى أسفل سافلين، فيظهر في المجتمع عباد الشياطين والزواج المثلي وأمثال ذلك من البلايا.
يعلم الغرب هذا النقص في الديمقراطية ولذلك لجأ إلى تشكيل مجلس آخر مواز للبرلمان لا يعتمد على أكثرية الأصوات، مثل مجلس اللوردات في بريطانيا ومجلس الشيوخ في أمريكا، وللأخير صلاحيات واسعة في اتخاذ القرار.
"سيندهش كثير من الناس عندما يعلمون أن هذا المصطلح (الديمقراطية) كان يستخدم عادة للقدح وليس للمدح، ففي اليونان – حيث نشأ هذا المصطلح – كان يفهم أنه مرادف لحكم الرعاع(9) وفي القرن الثامن عشر كانت بريطانيا دولة ارستقراطية، وإن كانت دستورية، فقد كانت تخضع لسيطرة ائتلاف من الارستقراطيين ونبلاء الدولة مع مشاركة محدودة لعدد صغير من رجال الأعمال، "وفي الولايات المتحدة دافع الآباء المؤسسون بثبات شديد عن دستورهم الجديد المتهم بأنه نظام ديمقراطي"(10) ولا ننسى هيمنة البروتستانت البيض السكسون (w s p) على أوضاع السياسة الأمريكية في الغالب، "ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك في بريطانيا اليوم ونشير إلى الطبقات (المثرثرة) التي تهيمن على السياسة والإعلام والحياة الأكاديمية، ولاتزال تتألف من خريجي اوكسفورد أو كامبردج المقيمين في لندن، وما يراه هؤلاء مشاكل ملحة ليست بالضرورة هي المشاكل التي يراها الناس الذين تركوا المدرسة في السن الأدنى(11) إذن هي ديمقراطية ولكن هناك أعراف ارستقراطية لم يتخلوا عنها ولم ينسوها، والأحزاب في بريطانيا هي التي تزكي مرشحيها في كل منطقة، وليس الأمر متروكاً للأفراد إلا ضمن حيز معين، ويتهيأ لي أن بعض الذين يتكلمون عن الديمقراطية في المنطقة العربية لم يطلعوا على (دينامية) وثقافة الديمقراطية في الغرب وفي بريطانيا وكيف تعمل الأحزاب وكيف يعمل البرلمان.
2- الإعلام
إن وسائل الإعلام اليوم لها مقدرة فائقة على التحكم بالرأي العام وبعض الناس يتميزون بسرعة التصديق لأتفه الاعلانات والتعليقات، وفي معركة انتخابية قد يتهم انسان خصمه بأسوأ التهم ويفتري عليه، وسرعان ما يصدق الناس هذه التهم. وقد تشجع وسائل الاعلام الأقليات الثقافية والقومية الصغيرة، ويسود الهرج ويسود الفكر الرخو الذي يفتت الأمة ويشتت أمرها والناس بطبيعتهم متوسطوا الكفاءة وقليلي الاطلاع، ولا يملكون المعرفة التامة بأحوال المرشحين.
3- المزايدة الانتخابية
قد يكون المرشح كثير التواضع أيام الانتخابات ثم لا يلبث أن يتحول إلى متمرد لا يأبه لشكاوى الناخبين ولا يهتم بهم. وقد يطلق أحدهم الوعود جزافا لإغراء ناخبيه، فإذا اختير تنصل منها، والنواب يدارون الوزراء لاحتياجهم اليهم في تنفيذ مآرب الناخبين. وفي التنافس والدعاية يلعب المال دورا كبيرا والأمر واضح مكشوف في البلاد العربية سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، ولكن في الغرب فإن أصحاب المصالح المالية يمولون حملتهم الانتخابية ليسخّرونهم بعدئذ لمصالحهم ودعايات الحملة الانتخابية في أمريكا تكلف المليارات.
وقد اعتبر (جون ستيوارت مل) الذي يلقب بأبي الحرية، اعتبر أن تأثير المال من أكبر عيوب الديمقراطية.
الديمقراطية اليوم
تراجعت نسبة المقترعين في أوروبا، فهي لا تتعدى في أحسن الأحوال نسبة 50% وذلك لعدم الثقة بوعود المرشحين وتراجعت الديمقراطية والحرية لدى الحكومات الغربية وشرعت تحذو حذو الحكومات المستبدة في استخدام قوانين جديدة لفرض هيمنة الدولة وتدخلها بحجة (الأمن) وفي أحداث 9/11 أخضع المسلمون لكل أشكال الضغط والتمييز العنصري بموافقة الديمقراطية، ويعبر الصحافي البريطاني (سامبسون) في كتابه (تشريح بريطانيا في الصميم) "عن قلقه على الديمقراطية بسبب ازدياد المركزية في اتخاذ القرارات وانحصار نفوذ المواطنين بسبب ضعف نقابات العمال، وبسبب الحرص على أصوات الناخبين" وتقول التقارير: إن السياسيين في أمريكا أفسدوا التعليم والمدرسة لأنهم يراعون أولياء التلاميذ ليكسبوا أصواتهم، وهذا مما مكن التلاميذ من سلطة لم يطالبوا بها، وأصبح لهم سيطرة على المدرسة.
ويقول الكاتب (دنيس ماكشين) في مقال له بعنوان (نهاية سويسرا): "إن أي مبادرة من البرلمان أو من المجلس الاتحادي يمكن صدها بسهولة عبر التلويح بإجراء استفتاء من جانب الكانتونات، وتتيح هذه المنظومة للشعب أن يكون له رأي في مجريات العمل في الحكومة، ولكنها في الوقت نفسه تمنع القيادة الوطنية للبلاد من اتخاذ قرارات حاسمة."(12)
إن بعض المفكرين يتهمون الديمقراطية بأنها تدور في فلك النسبية أي أنها تعتمد الأكثرية ولو كانت هذه الأكثرية لا تتقيد بالقيم الأخلاقية أو القيم الدينية، وجرائم البوسنة كانت بأغلية صربية(13). قد يقال هذا الكلام ليس على إطلاقه فهناك شيء في الدستور أو الأعراف، هي مبادئ عليا مثل حقوق الإنسان أو القانون الطبيعي كما يسمونه أو بعض القضايا التي تفرضها الكنيسة هو فوق البرلمان والأكثرية.
ولكن الواقع اليوم أن بعض البرلمانات الغربية أقرت أمورا تتنافى مع الفطرة الإنسانية ومع الأخلاق الأساسية، يقول أحد الباحثين في الديمقراطية: "إذا كانت الديمقراطية تستخدم الوسائل التي لا تتفق مع العدالة والحرية، فإن ذلك سيكون عملا لإفناء الديمقراطية"(14) ويقول باحث آخر: "يمكن أن تموت الديمقراطية من جراء الاستبداد ولكن يمكن أن تموت أيضا حين يصر أصحابها على أنها الحل في كل سياق، وبذلك يرضون مطامح جنونية مثل مطامح الأقليات أو مطامح أهل الفساد. تتخبط السياسة العالمية اليوم بسبب أهوائها والحرص على مصالحها الخاصة، وتحولت إلى سياسة دون أخلاق أو مبادئ وكل هذا يقع من أنظمة ديمقراطية وبموافقة الأكثرية".
وهناك كتاب كبار في الغرب ينتقدون الليبرالية والديمقراطية ومنهم المؤرخ ويلز الذي ينتقد النظم البرلمانية التي تحتكر الحزبية وأساليب الانتخابات ويفضل أساليب التمثيل النسبي التي تفسح المجال أمام فريق جديد من العاملين في السياسة غير فريق المحترفين المشعوذين. ويقول جاك مارتيان: "ما زلنا ندفع ثمنا باهظا للأخطاء الكبيرة والقصور الأخلاقي . قد تنقلب الديمقراطية على نفسها باستسلامها لغرائز الجبن".
لماذا فشلت الديمقراطية في البلاد العربية
إن الذين يطرحون الديمقراطية وكأنها الحل السحري الذي يشفي من كل الأدواء التي يعانيها العالم العربية أو الإسلامي، هؤلاء لا يعلمون أننا حتى لوسلّمنا أن الديمقراطية هي (الترياق) بنظرهم، فلا يمكن أن تطرح بعنوانها الفكري السياسي المطلق، لأنه لا يمكن لأي شعب له حضارة أن ينقل بطريقة عمياء مفاهيم ومؤسسات تطورت في مناخ آخر وبقيم أخرى.
إن العلمانيين في البلاد العربية يفضلون الدكتاتورية إذا كانت علمانية، ولا يريدون الديمقراطية إذا كان للمتدينين نصيب فيها أو نصيب كبير.
في الخمسينات طبقت الديمقراطية دون أي تطوير أو تعديل أو تحسين، والفرد المسلم لا يمكن أن يكون حزبيا كما في الغرب لأنه مرتبط بدينه وعائلته ومجتمعه.
إذا كانت الديمقراطية تحمل بعض الإيجابيات سواء في الإجراءات أو التجدد في تطبيقها، فإن المسلم سوف يستفيد من هذا وليس عنده مركب نقص تجاه الاخر بحيث لا ينتفع مما عندهم ولا ننس أن الغرب لا يريد الديمقراطية للعالم العربي أو الإسلامي، بل يريد انتشار الليبرالية، أي التغريب في المجتمعات الإسلامية وكذلك لأن الديمقراطية –على ما هي عليه- ستأتي بالمتدينين إلى السلطة.
وكل هذا لا يعني العودة للاستبداد، أو أن يكون الخيار كما قال أحدهم: "المستبد العادل، ليس هذا مما يصلح عليه أمر الإنسان، وأمور السياسة من الأهمية بحيث لا يصلح أن يشارك فيها من لا يعلم ولا يدرك ما هو صالح للبشر وما هو غير صالح.
نريد حلا آخر غير الديمقراطية بمفاهيمها وشموليتها والتي تعطي حق التشريع للبشر ولا تهتم بتشريع خالق البشر، طريقنا هو استعادة الثقة واكتشاف الذات والتراث.
المصدر: موقع المسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- عن الحرية ص19
2- قد تكون قضية اختيار الحاكم والتشاور في الأشياء الأساسية في الدولة موجود في حضارات سابقة لليونان ولم يصلنا أخبار عنها، وسنتكلم عن الشورى الإسلامية المتميزة عن الديمقراطية الغربية.
3- في عام 1776 م تكتب زوجة الرئيس الأمريكي (آدامز) له: تذكروا السيدات. وفي عام 1912 تبنى (روسفلت) حق النساء في الإقتراع، ولم تحصل المرأة في فرنسا على حق التصويت إلا في عام 1945، وكان السود في أمريكا محرومين من حق التصويت حتى عام 1968.
4- انظر د.جعفر شيخ ادريس الأصولية والعلمانية والديمقراطية ص18
5- وقد رأيت هذا عمليا، وبسبب كثرة الأصوات نجح أناس ليسوا بأصحاب كفاءة ولا بأصحاب اختصاص وكل ذلك بسبب جهل من لهم الحق بالانتخاب، فقد يختارون الشخص الذي من بلدهم أو الذي يعرفونه ولا يعرفون غيره، أو ما يجري من وراء الكواليس من تأثير على الناخبين.
6- ول ديورانت: قصة الفلسفة ص613
7- انظر مقاصد الشريعة للطاهر ابن عاشور.
8- المظهر والجوهر ص197
9- استيفن د تانسي: علم السياسة الأسس 237
10- المصدر السابق 205
11- المصدر السابق 336
12- مجلة نيوزويك 16/2/2010
13- عبد الوهاب المسيري: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان ص239
14- جان ماريتان: الفرد والدولة ص79
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن