صور من حب أبي بكر لرسول الله في الهجرة
الخروج من غار ثور
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار ليلة غرة ربيع الأول من السنة الرابعة عشر من النبوة، وإمعانًا في الاحتياط اتُّخِذتْ بعض الإجراءات الأخرى، مثل الخروج ليلاً من الغار، فقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو يصف خروجهم في هذه الليلة: "أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا كُلَّهَا"[1]. وكذلك الإمعان في اتجاه ناحية اليمن[2]، وأيضًا الاتجاه غربًا ناحية ساحل البحر الأحمر[3]، ثمَّالاتجاه شمالاً في الطريق الوعر المتفق عليه سابقًا.
سار رسول الله صلى الله عليه وسلم والركب المهاجر في أول الأمر مسافة طويلة دفعة واحدة؛ وذلك حتى يخرج من المنطقة الخطرة، وهي منطقة مكة وجبالها؛ آملاً أن يصل إلى مكان لم يسمع بالدية التي جعلها المشركون لمن يأتي به صلى الله عليه وسلم أو بصاحبه الصديق رضي الله عنه، وعليه فقد ظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه متحرِّكين دون توقُّف أو راحة أكثر من نصف يوم، فقد خرجوا من الغار عندما دخل الليل، وظلُّوا في سيرهم حتى موعد الظهر من اليوم التالي! ولم يكن سيرهم عاديًّا إنما كان سريعًا، وقد قال أبو بكر رضي الله عنه وهو يصف بدايات الرحلة: "فَخَرَجْنَا لَيْلاً فَأَحْثَثْنَا[4] لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ"[5].
إنها مسافة طويلة أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالعطش الشديد!
في حب رسول الله
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مِنْ عَازِبٍ رَحْلاً[6] بِثَلاَثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْ إِلَيَّ رَحْلِي. فَقَالَ عَازِبٌ: لاَ، حَتَّى تُحَدِّثَنَا: كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ، وَالمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ؟ قَالَ: ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ، فَأَحْيَيْنَا[7]، أَوْ: سَرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ، فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ، ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللهِ، فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أَحَدًا، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا، فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ[8] شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنَ الغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَكَذَا. ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى، فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً[9] مِنْ لَبَنٍ، وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِدَاوَةً[10] عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَافَقْتُهُ قَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللهِ. فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قُلْتُ: قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "بَلَى". فَارْتَحَلْنَا وَالقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سراقة بن مالك بن جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: "لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا"[11].
وفي لفظ آخر قال أَبُو إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: "جَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ إِلَى أَبِي فِي مَنْزِلِهِ، فَاشْتَرَى مِنْهُ رَحْلاً، فَقَالَ لِعَازِبٍ: ابْعَثْ مَعِيَ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ مَعِي إِلَى مَنْزِلِي. فَقَالَ لِي أَبِي: احْمِلْهُ. فَحَمَلْتُهُ، وَخَرَجَ أَبِي مَعَهُ يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ[12]، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا لَيْلَةَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، أَسْرَيْنَا لَيْلَتَنَا كُلَّهَا، حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَخَلاَ الطَّرِيقُ فَلاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَتْ لَنَا صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ، لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بَعْدُ، فَنَزَلْنَا عِنْدَهَا، فَأَتَيْتُ الصَّخْرَةَ فَسَوَّيْتُ بِيَدِي مَكَانًا، يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ظِلِّهَا، ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً، ثُمَّ قُلْتُ: نَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ. فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ، يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا، فَلَقِيتُهُ فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ؟ يَا غُلاَمُ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ لِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ لَهُ: انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ الشَّعَرِ وَالتُّرَابِ وَالْقَذَى[13]. -قَالَ (أي أبو إسحاق): فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى الأُخْرَى يَنْفُضُ- فَحَلَبَ لِي، فِي قَعْبٍ[14] مَعَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، قَالَ: وَمَعِي إِدَاوَةٌ أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ، فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ، فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْرَبْ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ. قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قَالَ: "أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ؟" قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ .."[15].
وعَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: "لَمَّا خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَرَرْنَا بِرَاعٍ، وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم". قَالَ: "فَحَلَبْتُ لَهُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ"[16].
إنه موقفٌ رقيقٌ رفيقٌ للغاية!
وقفات مع موقف أبي بكر الصديق
ومواطن الرِّقَّة والرِّفق فيه كثيرةٌ كثيرة.. وسأتناول منها موطنين:
الموطن الأول: موقف الصديق رضي الله عنه في رعايته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحُبِّه له:
إنّ الناظر لما فعله الصديق رضي الله عنه في هذا الموقف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليتخيَّل أن الصديق رضي الله عنه كان مستريحًا في بيته فأتاه مسافرٌ حبيبٌ من مكان بعيد فأخذ يُهَيِّأ له سبل الراحة! ولن يتخيَّل أبدًا أن الرجل قطع المسافة نفسها، وعانى من العطش نفسه، وعَرِقَ من الحرِّ نفسه، وقَلِقَ من المطاردة ذاتها! لقد كان هَمُّ الصديق الأوَّل هو خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفير كلِّ سُبل الراحة الممكنة له، التي تصل إلى توفير الكماليات فضلاً عن الاحتياجات الأساسية!
وسنسرد الآن ما رصدناه من أعمال في الموقف الرقيق آخذين في الاعتبار أن الصديق رضي الله عنه شريف من الأشراف كان يُشارك قبل إسلامه في حُكم مكة، وهو تاجر غني كثير المال، وهو كبير السنِّ قد بلغ في هذه الرحلة الواحد والخمسين من عمره، وهو ليس أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا؛ بل يصغره بعامين فقط! إنني أقول هذا الكلام لأن الذي رأيناه من الصديق في هذا الموقف هو فعلاً أمر مستغرب، وكان الكفار يُبْدُون عجبهم عندما يرون هذه الخدمة التي يُقَدِّمها الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعضهم يذكر أنه لم يَرَ الأكاسرة والقياصرة تُعَامَل بمثل هذا التوقير والتبجيل والتعظيم، وليس كل هذا إلا علامة من علامات الإيمان الصادق، ولما كان الصديق رضي الله عنه هو أكثر الصحابة حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أكثر الصحابة توقيرًا له وتعظيمًا.
ولنلاحظ هذه اللقطات النادرة من الحُبِّ:
1- البحث عن مكان ظليل: لم يكن الصديق يبحث لنفسه عن مكان ظليل في قيظ الصحراء؛ إنما كان يفعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بدليل أنه لم يجلس في هذا الظلِّ القليل الذي وجده؛ بل أَجْلَس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب هو ليقوم بأعمال أخرى! يقول الصديق رضي الله عنه: "فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ، فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ..".
2- تسوية مكان لنوم الرسول صلى الله عليه وسلم: قال أبو بكر رضي الله عنه: "فَأَتَيْتُ الصَّخْرَةَ فَسَوَّيْتُ بِيَدِي مَكَانًا، يَنَامُ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي ظِلِّهَا، ثُمَّ بَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً..". ما ألطف رقَّتك يا صدِّيق وأنت تُسَوِّي الرمال بيديك لتجعل منها فِراشًا ناعمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم يُخْرِج الصديق رضي الله عنه فروة كانت معه أعدَّها لذلك، ففرشها لرسول الله صلى الله عليه وسلم! قال الصديق رضي الله عنه في رواية: "فَفَرَشْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرْوَةً مَعِي..".
3- طلب الصديق رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلطف أن ينام قائلاً: "نَمْ، يَا رَسُولَ اللهِ". ثم سينشط هو في أداء أعمال خدمية أخرى!
4- قال الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طلب منه أن ينام: "وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ، فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ..". وينفض ما حوله قد تعني أن ينفض القذى وغيره؛ مما قد يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لا تُطَيِّره الرياح عليه، وقد تعني التأكُّد من عدم وجود أعداء يرصدونهم، وأنا أُرَجِّح المعنى الأول؛ لأن الصديق رضي الله عنه عاد واستخدم اللفظ نفسه "ينفض" مع الغبار في الرواية نفسها، ولو كان يُريد تأمين المكان لاستخدم لفظًا آخر، وهو ما حدث بالفعل في رواية أخرى، كما سنرى في النقطة القادمة!
5- اهتمَّ الصديق رضي الله عنه فور نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأمين المكان، فقال: "ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنَ الطَّلَبِ أَحَدًا". ولم يأخذ قسطًا من الراحة، ولو قليلاً!
6- توفير اللبن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: رأى الصديق رضي الله عنه راعي غنم، فأسرع إليه ليسأله لبنًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا استيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم وجد اللبن جاهزًا!
7- اهتمَّ الصديق رضي الله عنه بنظافة اللبن وسلامته من الأذى، فطلب من راعي الغنم أمرًا يمكن أن يكون مستَغْرَبًا في الصحراء، وهو تنظيف ضرع الغنم من الغبار، وكذلك تنظيف يده من الغبار! والأمر مستغرَب لأننا في الصحراء، والغبار يغطي كل شيء، ولو كان الأمر عاديًّا ما علَّق عليه الصديق رضي الله عنه في روايته؛ بل إنه لم يكتفِ بالتعليق الشفهي إنما قلَّد ما فعله راعي الغنم فعلاً بعد سماعه طلب الصديق! قال الصديق رضي الله عنه لراعي الغنم: "انْفُضِ الضَّرْعَ مِنَ الشَّعَرِ وَالتُّرَابِ وَالْقَذَى.."، ثم قال: "ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ، فَقَالَ: هَكَذَا، ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالأُخْرَى.."! وتناقل الرواة للموقف طريقة تنظيف الراعي ليده! قال أبو إسحاق -أحد رواة الحديث-: فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى الأُخْرَى يَنْفُضُ!
8- تبريد اللبن ليكون ألذَّ طعمًا! لم يكتفِ الصديق رضي الله عنه بتحضير اللبن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه أراد أن يُبَرِّده له ليكون أطيب في الطعم، فصبَّ الماء حول قعب اللبن! قال الصديق رضي الله عنه: "فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ..".
9- عاد الصديق رضي الله عنه باللبن في هدوء حيث كان يخشى أن يوقِظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومته القصيرة! قال الصديق رضي الله عنه: "وَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ مِنْ نَوْمِهِ، فَوَافَقْتُهُ اسْتَيْقَظَ".
10- اكتشفنا في الموقف أن الصديق رضي الله عنه كان يحمل معه من بيته إداوة فيها ماء خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اهتمَّ الصديق رضي الله عنه بنظافتها وحمايتها من الغبار فوضع على فمها خرقة لحفظها! قال الصديق رضي الله عنه: "وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ..". وفي رواية: "وَمَعِي إِدَاوَةٌ أَرْتَوِي فِيهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ". فهي خاصَّة للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولا يسمح الصديق رضي الله عنه لنفسه أن يستخدمها! بل إنه في رواية يقول: "وَمَعِي إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ عَلَيْهَا خِرْقَةٌ، قَدْ رَوَّأْتُهَا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .."[17]. ورَوَّأْتُهَا أي تأنَّيْتُ بها واعتنيتُ حتى صلحت!
11- من أروع لقطات الحُبِّ في هذا المشهد تعليق الصديق رضي الله عنه على شُرب رسول الله صلى الله عليه وسلم للبن، فقد قال الصديق رضي الله عنه: "فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ"! ولم يَقُلْ: "فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيَ"! فالذي رضي بشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم للبن هو الصديق رضي الله عنه، فصار ارتواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يَرْوِي الصديق رضي الله عنه ويُرضِيه!
إن هذه المشاهد النادرة لتكشف لنا عن مدى حبِّ الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تُوَضِّح لنا بجلاء أنه كان يحبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه؛ آخذين في الاعتبار أن الصديق رضي الله عنه يفعل كلَّ ذلك في وجود مولاه عامر بن فهيرة رضي الله عنه، ولو كان الأمر مجرَّد مهمَّة ينبغي أن تُقْضَى لكان من المنطقي أن يأمر الصديق رضي الله عنه عامرًا رضي الله عنه أن يقوم بكل هذه الأعمال، فهو الأصغر سِنًّا، وهو الأجدر بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق رضي الله عنه لاعتبارات كثيرة؛ لكن الصديق رضي الله عنه لم يكن يُفَكِّر بهذه الطريقة، إنما كان في الواقع يسعى بكل جهده لابتكار طرق مختلفة يُقَدِّم فيها خدماته وإكرامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه في الحقيقة كان يقوم بعمل من أجَلِّ أعمال الدين، وهو حبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان يقوم به بدوافع إيمانية وعقائدية غير متكلَّفة، وهذا هو السبب الرئيس الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بكلِّ هذا البذل والتعب من الصديق رضي الله عنه، فهو تعليم للأُمَّة، وتوضيح لمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، وإثبات لدرجة الإيمان التي ينبغي أن يكون عليها العبد الصالح، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"[18].
والحبُّ المقصود ليس كلامًا فقط؛ إنما هو في الواقع أفعال، وقد كان الصديق رضي الله عنه في الموقف يُعَلِّم الأُمَّة كلَّها كيف يمكن أن تُوَقِّر نبيها صلى الله عليه وسلم وتُعظِّمه. وإضافة إلى ما سبق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منشغلاً بأمور كثيرة تخصُّ المرحلة القادمة، فلا شكَّ أنه يُفَكِّر فيما سيحدث عند دخوله المدينة، وفي الخطوات الأولى التي ينبغي أن يفعلها، وفي التحديات التي يمكن أن تُواجه دولته الناشئة، وفي العلاقة المتوقَّعة بين المهاجرين والأنصار، وفي ردود الأفعال من المشركين واليهود عند دخوله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ هذه الأعمال كلها جعلت الصديق مهتمًّا كلَّ الاهتمام بتوفير الراحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى يمكن له أن يتعامل مع كل هذه المواقف بذهن صافٍ وبنفس مستريحة، أما وقت الراحة للصديق فسيأتي بعد ذلك، وستنتهي هذه الفترة الصعبة من الرحلة على أية حال؛ خاصة أن الصديق صلى الله عليه وسلم ليس مكلَّفًا بكل ما ذكرناه من أعمال خاصَّة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ففي هذه اللحظات يستريح الرسول صلى الله عليه وسلم، وستأتي لحظات أخرى يستريح فيها الصديق صلى الله عليه وسلم، وكلٌّ ميسر لما خُلق له.
الموطن الثاني: موقف الصديق رضي الله عنه مع راعي الغنم!
وهذا كذلك من المواقف الباهرة للصديق رضي الله عنه، وهو يكشف لنا أخلاق الإسلام في أبهى صورها! فالركب المهاجر يترك بلده بعد أن أُوذي في الله، وبعد أن ضاعت أمواله ودياره، وبعد أن اعتدى المشركون عليهم وعلى أصحابهم؛ بل وصل الأمر منذ أيام قليلة إلى محاولة القتل، وما زالت هناك مكافأة مرصودة لمن يأتي بهم إلى قريش! هذا هو التعامل الكافر مع فريق المؤمنين، فكيف تعامل الصديق رضي الله عنه مع غلام بسيط وحيد يسير في الصحراء مع أغنام مملوكة لأحد هؤلاء المشركين؟!
لم يَقُل الصديق رضي الله عنه: إن هذا ظرف اضطراري، ويجوز أن نسطو على بعض الغنم، أو نأخذ بعض اللبن دون إذن. ولم يَقُلْ: إن السطو على الأغنام سيكون معاملةً بالمثل؛ فقد أخذوا أموالنا وديارنا، ولم يقل: إن هذه الإغارة ستكون وسيلة ضغط على المشركين. ولم يَقُلْ: إن هذا سيُحدِث نكاية في الكافرين ويشرح صدور المؤمنين ويُذهِب غيظ قلوبهم! لم يَقُلْ كل هذا؛ بل لم يُفَكِّر فيه أصلاً، إنما عامَل الغلام بلطف نادر، وأخلاق باهرة!
تقدَّم الصديق رضي الله عنه في لطف يتعرَّف على الغلام! قال الصديق رضي الله عنه: "لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ؟" قَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. قال الصديق رضي الله عنه: "سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ". وفي رواية أن الغلام كان لرجل في المدينة، والأصحُّ أنه لرجل قرشي من أهل مكة؛ لأن مراعي المدينة بعيدة جدًّا عن هذا المكان، وقد عرف أبو بكر رضي الله عنه هذا الرجل، وعرف أنه يسمح بإهداء المسافرين من لبن غنمه، وكان كثيرٌ من العرب يفعلون ذلك، بل يُحبونه؛ ومن ثَمَّ سأله الصديق رضي الله عنه: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ؟ فقَالَ الغلام: نَعَمْ. هنا سأله الصديق رضي الله عنه بأدب: فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
ماذا لو رفض الغلام؟! كان الموقف سينتهي عند هذا الحدِّ، ويمضي الركب بلا أدنى مشكلة! مع أن المهاجرين ثلاثة مسلمين ورابعهم الدليل المشرك، فهؤلاء أربعة رجال لا يملكون إلا أن يستأذنوا الغلام في شربة لبن!
وفي النهاية حلب الغلام لأبي بكر رضي الله عنه لبنًا؛ فهل فزع الغلام من كثرة الرجال فحلب لهم كلَّ ما يُريدونه من لبن؟! كلاَّ! لقد قال الصديق رضي الله عنه: "فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ"! والكثبة هي القليل، فصاحب الغلام لا يسمح له إلاَّ بلبن قليل يُعطيه للمسافرين على سبيل الضيافة، وقَبِلَ الصديق رضي الله عنه اللبن شاكرًا، وانتهى الموقف!
إننا ينبغي أن ننظر إلى هذا الموقف النبيل في ضوء أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه يتخفَّيَان من مجرمي قريش؛ الذين يبحثون عنهما في كل مكان كي يُقَدِّموهما للقتل!
هنا سنعرف على وجه الحقيقة الفرق بين أخلاق الجاهلية وأخلاق الإسلام! ثم مالت الشمس، وأكملت القافلة المباركة رحلتها من مكة إلى المدينة.
المصدر: موقع قصة الإسلام
---------------------
[1] مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة ويقال له: حديث الرحل، (2009).
[2] غار ثور في جنوب مكة المكرمة، أو جنوب المسجد الحرام على مسافة ثلاثة كيلو مترات. انظر: محمد بن محمد حسن شُرَّاب: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة ص174، وقيل: ثور من جبال مكة من خلفها على طريق اليمن. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/86.
[3] عن عائشة ل قالت: "وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ". البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، (3692).
[4] قال القسطلاني: فأحثثنا بحاء مهملة فمثلثتين فنون؛ أي: أسرعنا السير. وفي نسخة: "فاحتثثنا". بزيادة فوقية بعد الحاء افتعلنا من الحث، وفي أخرى: "فأحيينا". بتحتيين بدل المثلثين بلا فوقية من الإحياء ضد النوم. انظر: القسطلاني: إرشاد الساري 6/226.
[5] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، (3704).
[6] الرَّحْل: مَرْكَبٌ للبعير والناقة، الذي تُرْكَب عليه الإبل. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 11/265.
[7] إحْياءُ الليل: السهر فيه وترك النوم. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 14/211.
[8] اعْتَقل شاتَه: وَضَعَ رجلها بين ساقه وفخذه فَحَلبها. ابن منظور: لسان العرب، 11/458.
[9] الْكُثْبَةُ: الشَّيْءُ الْقَلِيل. النووي: المنهاج 13/179. وقال ابن حجر: كُثْبَةً؛ أَيْ قَدْرَ قَدَحٍ، وَقِيلَ: حَلْبَةً خَفِيفَةً، وَيُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنَ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ، وَعَلَى الْجَرْعَةِ تَبْقَى فِي الْإِنَاءِ، وَعَلَى الْقَلِيلِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مُجْتَمِعٍ. انظر: ابن حجر: فتح الباري 6/624. وقال ابن حجر أيضًا: وَأَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ فِي شُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّبَنِ مَعَ كَوْنِ الرَّاعِي أَخْبَرَهُمُ إنَّ الْغَنَمَ لِغَيْرِهِ؛ أَنَّهُ كَانَ فِي عُرْفِهِمُ التَّسَامُحُ بِذَلِكَ، أَوْ كَانَ صَاحِبُهَا أَذِنَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِيَ مَنْ يَمُرُّ بِهِ إِذَا الْتَمَسَ ذَلِكَ مِنْهُ. انظر: فتح الباري 10/72.
[10] الْإِدَاوَة: إِنَاء صَغِير من جلد يتَّخذ للْمَاء. انظر: ابن حجر: فتح الباري 1/76.
[11] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم (3452)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة (2009).
[12] ينْتَقد ثمنه؛ أي يَسْتَوْفِيه. انظر: السيوطي: الديباج 6/323. والنووي: المنهاج 18/148.
[13] القَذى جمع قَذاة: وهو ما يقع في العين والماء والشراب من تراب، أو تبن، أو وسخ، أو غير ذلك. ابن منظور: لسان العرب 15/172.
[14] القَعْبُ: القَدَح الضَّخْمُ الغلِيظُ الجافي وقيل قَدَح من خَشَب مُقَعَّر وقيل هو قدح إِلى الصِّغَر يُشَبَّه به الحافرُ وهو يُرْوِي الرجلَ. ابن منظور: لسان العرب، 1/683.
[15] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، (3419)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة، ويقال له: حديث الرحل، (2009).
[16] البخاري: كتاب الأشربة، باب شرب اللبن، (5284)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة، ويقال له: حديث الرحل، (2009).
[17] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، (3704).
[18] البخاري: كتاب الإيمان، حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، (15)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد، (44).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة