(قد كساها السواد مع الحسن مهابة وجمالاً)
قلَّ أن يحدث في حياة الإِنسان مواقف سريعة عجيبة مخالفة لما هو سائر عليه في يومه وأمسه، ولربما سار على وتيرة واحدة في صباحه ومسائه شهوراً وأياماً حتى يكون ذلك اليوم المميز في حياته.
وقد حصل لي ذلك فقد كنت آمناً في سربي، ممسكاً بقلمي، أرتب جدولي اليومي، إِذْ بي أفاجأ باتصال ليلة السبت متأخراً يبلغني الدعوة لغسل الكعبة يوم الأحد 26/ 1/ 1437هـ.
ومن الغد عزمت على السفر فركبت الطائرة إلى جدة ثم إلى مكة. وأديت العمرة، وفارقني النوم ليلاً ونهاراً حتى أرقت وأرهقني السهر. وقبيل الفجر توجهت إلى الحرم محملاً بمشاعر فياضة يقصر دونها ما ذكره الأدباء والشعراء في وصف الفرح بلقاء الحبيب. والقلب يحدثني: ستدخل أول بيت وضع للناس!!
رأيت الاستعدادات وذلك بتقريب سلم الصعود، وكذلك نقض وقص أطراف خيوط الستارة التي على باب الكعبة لتطوى وترفع إلى الأعلى.
صليت الفجر وذهبت إلى مكان الاجتماع وقدمت بطاقة الدخول البلاستيكية التي تعلق على الصدر وعليها كتب الاسم ورقم الهوية مختومة بختم إمارة منطقة مكة، وكان الترتيب بحسب أقدمية الحضور حيث فرغوا عدة أماكن، وكلما امتلأ مكان بدؤوا في الذي يليه وهكذا، وجعلوا بينهم فاصلاً، وكل مجموعة تقارب الثلاثين رجلاً أو تزيد، فيهم الكبير والشاب والعربي والأعجمي، تجمعهم الفرحة الغامرة والشوق إلى دخول الكعبة المشرفة، وتشكر الإمارة ورئاسة الحرمين على جهودهما فرغم كل شيء بقى المطاف ممتلئا بالطائفين كما هو في كل وقت.
ونحن في الانتظار مرَّ بخاطري تاريخ مكة وقدوم إبراهيم - عليه السلام - بهاجر وإسماعيل من الخضراء إلى الجرداء {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} (37) سورة إبراهيم، وموقف إبراهيم وشدة إخلاصه وتعلقه بربه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} (127) سورة البقرة، ودخول النبي - صلى الله عليه وسلَّم - مكة فاتحاً ناشراً للدين داعياً إليه بعد أن خرج منها (ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت)، وبينما أنا في غمار أحاديث النفس الماتعة إذا بأصوات التكبير تعلو وترتفع معلنة ومبشرة أن باب الكعبة قد فتح!! وفجأة تذكرت الآية في يوم المحشر والنداء العظيم {ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ أمنينَ} (46) سورة الحجر! فتحركت المشاعر وجال الخاطر بما يصعب وصفه والحديث عنه، وبدأت المجموعات تتحرك واحدة تلو الأخرى في سلاسة وهدوء، ثم جاء النداء لمجموعتنا، وجعلوا مخرجاً صغيراً مباشرة على ساحة الكعبة (الصحن)، وكان هناك تجمع ومسارعة للخروج، تذكرت الجنة وأبوابها الثمانية ومصراعي كل باب مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام. مر الجميع واحداً تلو الآخر إلى حجر إسماعيل (الحطيم) لصلاة ركعتين، ومنه السير بجوار الكعبة إلى الركن اليماني ثم تقبيل الحجر الأسود، فقبلته وعهدي به قديم لشدة الزحام، وقد كان بيني وبينه ألفة ومحبة، فقد مر علي زمان وأنا صغير أقبله يومياً عند كل صلاة وربما أكثر، وفي النفس من أحاديث الصبا ما يطول.. وبعد تقبيل الحجر الأسود جعلوا صندوقاً خشبياً حيث تؤخذ منك البطاقة البلاستيكية وتوضع فيه. ثم صعدت على سلم خشبي واسع الدرجات إلى الكعبة، والناس بين داخل إليها وخارج منها والكعبة ليس بها نوافذ ولا فتحات، ولهذا أحضروا هذا اليوم إضاءة مؤقتة لتنير المكان وإذا دلفتَ داخلاً تركتَ الدنيا خلف ظهرك وبدت مشاعر الناس دموعاً ودعاءً وحمداً وشكراً، أنس وسكون وقلوب خاشعة، بقعة ملأت محبةً وشوقاً قد كساها السواد مع الحسن مهابة وجمالاً. ما رأيت مكاناً ينبض له القلب محبة وشوقاً كل يوم مثل هذا البيت. وأنت في أنسك تهب عليك نسمات ورائحة العطور والبخور تستقبلك في يوم فرحك وسرورك. شممت روائح عطور الدنيا وشممت عطراً ولا كعطر الكعبة، عطر قلب وروح وفؤاد وقل ما شئت لا تثريب عليك، اسرح بخيالك حيث شئت إنه عطر القلوب والمشاعر أنفاس الحياة لا تكتب. ثم صليت ركعتين سلمت، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين في جهاتها الأربع وقد استطبت الصلاة وعظم المكان وقلبي يرفرف كطائر حلق في أعالي السماء، وكنت قد جمعت في ذهني ورتبت ما أفعل وأدعو فبدأت بنفسي وبوالدي وأهل بيتي، ودعوت للأقارب والزملاء والجيران حتى ظننت أني لم أترك أحداً، وهناك من دعوت لهم بأسمائهم ممن طال بهم البلاء ونالهم المرض ومنهم من له يد ومعروف علي. ثم ختمت بالدعاء للمسلمين وأكثرت لضعفتهم ومساكينهم، وأطلت اغتناماً لفضل المكان ورجاء من الجواد واستعذاباً للدعاء كما أطنب موسى في جوابه لربه عز وجل: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (18) سورة طـه؛ لأن المقام مقام تشريف ومباسطة يحسن فيه طول الحديث.
وفي داخل الكعبة باب يسمى (التوبة) في الركن العراقي منها، وهو الذي يلي باب الكعبة حين الطواف، له درج يؤدي إلى السطح وترى فتحته في أعلى سطح الكعبة من الخارج، ويقف بجواره أحد أبناء الشيبي الذي أخبرني أنه لا يؤذن لأحد بالصعود فيه. وأرض الكعبة من الرخام الأبيض وجدرانها من الرخام الروز الوردي بارتفاع يسير ولها ثلاثة أعمدة أسطوانية جميلة مرتفعة جداً تصل إلى 9 أمتار، وسقف الكعبة به نقوش قديمة هي قماش الكعبة ما ملأت النظر منها. وبين الأعمدة أباريق وقناديل معلقة نحاسية وفضية وغيرها، وقد ذكرت الوالدة - حفظها الله - أن الوالد - رحمه الله - قد دخل الكعبة، وذكر لها أن بها أباريق من ذهب، وسألت أحد أبناء الشيبي فقال: إن هذه ليست ذهباً، ولعل الوالد - رحمه الله - نقل المعلومة من الكتب وقد كانت كذلك، وليس مما رأى.
وأبناء أسرة الشيبي - جزاهم الله خيراً - يرحبون بالقادمين هاشين باشين وكأنهم يعرفونك منذ زمن، وعددهم من العشرة أو يزيدون ما بين شيخ وشاب، وقد تحدثت مع ثلاثة من شبابهم وقلت لأحدهم بقاء مفتاح الكعبة في أيديكم آية من آيات وعلامات النبي - صلى الله عليه وسلَّم - : (خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم) ولا تزال إلى اليوم في أيديكم، فزادني واستزدته {إِنَّ اللّهَ يَأمركُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا} (58) سورة النساء، ومن لطافة هؤلاء الثلاثة الذين تحدثت معهم سؤالهم عن الاسم ولعل هذا من السُنة واللباقة وحسن الاستقبال.
وخارج باب الكعبة جلس على كرسي كبير آل الشيبي ومقدمهم يودع الناس ويدعو لهم.
وأنت تودع الكعبة والنفس تنازعك في البقاء، وما تردد في ذهني اسم بكة إلا في تلك اللحظات، خرجت والنفس ما طابت والفؤاد ضمي.
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها * حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً
سبحان من كساها بالسواد حسناً وبهاءً.
ومرت بي عجائب ولطائف متتالية، منها: أني قابلت أناساً عند الكعبة وفي داخلها لم أرهم منذ سنوات، منهم الشيخ شعيب أحمد من جمعية أهل الحديث في بريطانيا، وقد كان يقصدنا زمناً مضى في بيت الوالد - رحمه الله - .
ومن اللطائف أنه بعد ثلاثة أيَّام ذهبت لأشهر محل عطور في مكة، وأشممته رائحة ما علق بشماغي من طيب الكعبة، وقلت: هل أجد عندكم مثل هذا العطر؟ فقال: لا استطيع أن أميز الرائحة لزكام أصابني، ولكن رفيقي سوف يأتي مساءً، فعدت لصاحبه وشم ما بقي، واعتذر بأنه لم يعرف الرائحة، وسألني: أين وجدتها ؟ فلم أخبره.
وقبل النهاية أمران:
الأول: كنت أخذت على نفسي: ألا أسأل الناس شيئاً - على قدر استطاعتي - وهذا ليس مدحاً لها بل هو امتثال لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلَّم - فيسر الله لي دخول بيته بلا طلب ولا سؤال، ولعل هذا من توفيق الله وبركة اتباع السنة. ولي في هذا الأمر أحاديث لا تروى، إنما إشارة لبركة السنة. واسأله وقد منَّ علي بهذا الفضل أن يدخلني فردوسه الأعلى بلا حساب ولا عذاب ووالدي والمسلمين. ومن الموافقات أن حكيم بن حزام - الذي أوصاه النبي - صلى الله عليه وسلَّم - ألا يسأل الناس شيئاً - قد دخلت أمه الكعبة قبل عام الفيل بثلاث عشرة سنة فمخضت فيها فولدت حكيم ولا يعرف هذا لغيره.
والثاني: سلكت طريقاً ألا أكتب عن أموري الخاصة وخالفت هذه المرة لضعف أصابني، وبطلبٍ وإلحاح ممن أرجو برهم ونفعهم وبقاء ودهم (الأولاد مبخلة مجبنة)، ولعله من التحدث بنعمة الله وفضله.
وأخيراً.. فدخول الكعبة ليس دليل صلاح وتقى وتزكية نفس لكنها فرصة لمن حازها، والأمر الأعظم {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (185) سورة آل عمران.
اللهم لا تحجب ما دعوت ولا تجعله آخر العهد بهذا البيت العظيم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة