دِلالات مولد النبي صلى الله عليه وسلم حوار مع الغضبان
كتب بواسطة حوار مع الداعية د. منير الغضبان
التاريخ:
فى : حوارات
1553 مشاهدة
يومٌ أطلَّ على الوجودِ معَطَّرَ الجنَباتِ زاهرْ
النورُ فوقَ جبينه الوضّاءِ بالبركاتِ زاخِرْ
وتلألأَت في وجهِ مكّةَ فرحةٌ وعلَتْ بشائرْ
ميلادُ مَن هذا الذي هزَّ البوادي والحواضِرْ؟
ولد رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم فانتشر النور, وتدفّق الخير مَعيناً صافياً، نهل منه أقوام فسُعِدوا وحُرم آخرون – باستكبارهم – فذلّوا وتَعِسوا... أحيا الله به الكون، وانبعثت أمة التوحيد من جديد بعد قرونٍ أُمسِك فيها وحي السماء فتسربلت الأرض بظلم سكانها... لمولده صلى الله عليه وسلم دلالات، وللظروف التي أحاطت بنشأته فصاغت شخصيته وأهّلته للرسالة أبعاد، ومن النِّتاج الذي خرج من بين يديه منارات تهدي السالكين في دروب النور التي خطّها هذا النبي العظيم...
كل ذلك سيحدِّثنا عنه المتخصص في السيرة النبوية الدكتور منير الغضبان الذي تشرفنا باستضافته على صفحات المجلة، ويسعدنا أن نعرفكم به - قراءنا وقارئاتنا الكرام.
قبل بدء الحوار:
الداعية الدكتور منير الغضبان
من مواليد دمشق - سوريا 942م.
- إجازة في الشريعة / جامعة دمشق، 967م. ومن أجَلّ شيوخه: الدكتور مصــــــــــطــــــفى السباعي، والعلّامة الكيميائي المؤرّخ اللغوي الشيخ سعيد الطنطاوي.
- دبلوم عام في التربية / جامعة دمشق، عام 968م.
- ماجستير في اللغة العربية من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، 972م.
- دكتوراه في اللغة العربية من جامعة القرآن الكريم بالسودان، 997م.
- حائز على جائزة سلطان بروناي للسيرة النبوية، عام 2000م.
- عمل في التدريس في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية بدمشق، 962-972م، وفي التوجيه التربوي بإدارة تعليم البنات بالطائف 393، 395هـ.
- له العديد من المؤلفات، منها: موسوعته في السيرة النبوية التي من عناوينها: المنهج الحركي و المنهج التربوي والمنهج الجهادي للسيرة النبوية، المرأة، الفكر السياسي الإسلامي، التراجم والتاريخ الإسلامي. كما شارك في تأليف الكتب المدرسية في رئاسة تعليم البنات في الرياض (أصول التدريس، محو الأمية، كتب الفقه والحديث).
أما الآن، فإلى الحوار...
- «منبر الداعيات»: صاحبتْ ولادة النبي صلى الله عليه وسلم خوارقُ كثيرة، فما دلائل مولده صلى الله عليه وسلم؟
نأخذ دلالة المولد من الكليات الكونية والبشرية الكبرى الواردة في الحديث عن ولادته صلوات الله عليه؛ إذ اعتبر المولد أحد أركان ثلاثة تقوم عليها سلسلة النبوة للعالمين، فمن حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني عند الله في أمِّ الكتاب لَخَاتم النبيين، وآدم مُنْجدل في طينته. وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوةُ أبي إبراهيم، بشارةُ أخي عيسى قومَه، ورؤيا أمي التي رأت أنها خرج منها نور أضاءت له قصورُ الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين صلوات الله عليهم» أخرجه أحمد وغيره.
فهو نبي الأنبياء ورسول الرسل: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَـمَـا آتيتُكم من كتابٍ وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدِّق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرُنّهُ قال أَأَقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا أقرَرْنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} (آل عمران:60).
إذاً، فدلائل ولادته صلى الله عليه وسلم ثلاثة:
* دعوة إبراهيم أبي الأنبياء: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم...}.
* بِشارة عيسى روح الله وكلمته {... ومبشِّراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد}.
* رؤيا أمه النور الذي أضاءت له قصور الشام عند ولادته، وكما اختُصرت الأرض بالشام، أرض المَحشر والمنشر، وكانت رمز الوجود والتاريخ، فقد لُخِّصت البشرية ومُحِّضت برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث الأنبياء مكلّفون بالإيمان به.
2. «منبر الداعيات»: من مولده صلى الله عليه وسلم إلى بعثته: ما هي ملامح الحياة في جزيرة العرب؟
لن نضيف جديداً على ما قاله جعفر رضي الله عنه الذي كان يتكلم بين يدي النجاشي من مشكاة النبوة: (أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف) صحيح السيرة النَبوية: 74-75.
وإن كان هذا لا ينفي مخزن الأخلاق الكامن تحت هذا الركام. وهو ما حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «الناس معادن كمعادن الذهب، والفضة خيارهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فَقُهوا» رواه مسلم.
3. «منبر الداعيات»: الظروف التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم منذ ولادته: يُتمه من الأب ثم الأم ثم الجد، إرضاع السيدة حليمة له، نشأته في الصحراء... كيف أثّرت في صياغة شخصية النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى} فهذا اليُتم هو ضمن منظومة الصياغة الربانية لسيد الخَلْق بحيث لا يكون لبشر أثر في تربيته يتلقى منه العلم والقيم؛ إنّما الله تعالى هو الذي آواه ورباه جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم: «أدّبني ربي فأحسن تأديبي» - وفيه ضَعف سنداً لكنه صحيح المعنى -.
لكن هذا لا ينفي صياغة المشاعر البشرية في فقدان أقرب وأحب الناس إليه، حتى لا يبقى محروم أو يتيم في الأرض، إلا ويرى له في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة.
الأثر الأكبر الذي نُقرّه لتأثير هذه الظروف في صياغة شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأثر الإعجازي البلاغي؛ كما في الحديث، فقد جاء أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله ما رأيتُ أفصح منك. فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما يمنعني وأنا من قريش واستُرضعتُ في سعد بن بكر»! (السيرة الحلبية : 46).
وليس بين أيدينا خلال هذه الفترة إلا الصياغة الربانية له من خلال حادثة شَق الصدر المرْويّة في الصِّحاح: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغِلمان فأخذه فصرعه فشقّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه عَلَقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طِست من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَه، ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغِلمان يسعون إلى أمه – يعني ظئره أي مُرضعتِه – فقالوا: إنّ محمداً قد قُتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون. قال أنس: وكنتُ أرى ذلك المخيط في صدره) رواه مسلم.
فهذه الظروف أدّت إلى فصاحة لسانه، وتَكَوُّنِ مشاعر الوفاء لأهله، أما صياغة قلبه وعقله وفكره فهي صياغة ربانية خالصة.
4. «منبر الداعيات»: أحيا الله بمولد الهادي صلى الله عليه وسلم مَوَات البشرية وغيّر بذلك مجرى التاريخ: كيف يُحيي مولُده اليوم مَواتَ القلوب والعقول ليغيِّر واقع الأمة ومعه وجه تاريخنا الحديث؟
عندما يتحول مولد الهادي في قلوبنا وعقولنا إلى مولد جديد في حياتنا نهدم به البنيان المتداعي الذي نحياه، ونُصيغ مولوداً جديداً يعزم العزمة الجبارة للتغيير الشامل.
فدَعْني والفَخار بمجد قومٍ
مضى الزمن القديم بهم حميدا
فشَرُّ الناسِ ذو حسَب قديمٍ
إذا فاخرتَه ذكر الجُدودا
وخيرُ الناس ذو حسَب قديم
أضاف لمجده حسَباً جديدا
فولادة تاريخ العرب ارتبطت برسول الله صلى الله عليه وسلم: «بي نُصروا»، والقرآن الكريم يطلق على العملية (الإخراج) ويسميه المفكر الإسلامي سيد قطب (الانبثاق من القرآن): {الر* كتابٌ أنزلناهُ إليكَ لتُخرج الناسَ من الظُّلماتِ إلى النورِ بإذنِ ربِّهم إلى صراطِ العزيزِ الحميد} (إبراهيم: – 2).
فالذكرى واستيعاب الماضي المجيد (أيام الله) هي الحافز الأكبر لإعادة البناء الجديد: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أنْ أَخرج قومَك من الظلمات إلى النور وذكِّرهم بأيام الله إنّ في ذلك لآيات لكل صَبّار شَكور}.
5. «منبر الداعيات»: النخبة التي سخّرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في بدايات الدعوة أسهمت بشكل كبير في التمكين لدولة الإسلام في حياته وبعد مماته صلى الله عليه وسلم: فما سبيل الدعوات اليوم إلى نُخب مشابهة؟
هذه النخبة مواصفاتها كما ذكرها الله عز وجل: {محمد رسول الله والذين معه: - أشداء على الكفار، 2- رحماء بينهم، 3- تراهم رُكَّعاً سُجَّداً، 4- يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، 5- سيماهم في وجوههم من أثر السجود}.
أما كيفية بنائها فنجده في تتمة الآية: {... كزرعٍ أخرج شَطْئَه فآزره فاستَغْلَظ فاستوى على سُوقه يُعجب الزُّرّاعَ ليَغيظ بهم الكفار}.
أولاً: زرع جديد نبذره، و ثانياً: ثم نتعهده ونربّيه أو نعين على تربيته، فالله هو المربي وهو الزارع، وأخيراً: متابعة التربية الدَّؤوبة بعيداً عن أخلاط الأفكار والمبادئ والعادات الآسنة في المجتمع حتى يصبح مستعصياً على الإبادة {فاستَغْلَظَ فاستَوى على سُوقِه}.
وللتأكد من سلامة المنبت وصحة الطريق، لا بد أن يكون ثمره: يُعجب الزُّرّاع ويحقِّق مواصفات المربّين، ليَغيظ بهم الكفار، فتصبح القوة الرادعة علماً وثقافةً وجيشاً تَحمِلُ عبء تغيير العالم كله لصالح هذا الدين.
إنّ وعدَ الله قائم إذا أحسنّا الزراعة والتربية: بالنصر بالحياة الطيبة في الدنيا، والأجر العظيم إلى قيام الساعة في الآخرة: {وعَدَ الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً}.
6. «منبر الداعيات»: حياة النبي صلى الله عليه وسلم بكل تفصيلاتها كانت منهج حياةٍ للأمة؛ من خلال عناوين أساسية عريضة: ماذا على الحركات الإسلامية من جهد لإسقاط هذا المنهج على سياساتها، وترجمته عملياً في مؤسّساتها، واتخاذه نمط حياة في مختلف تعاملاتها، مع مراعاة اختلاف الزمان والمكان بالنسبة للوسائل والأساليب؟
- الجهد الأول: فقه الواقع بعيداً عن التشنج والعاطفة؛ بحيث لا تغيب جزئية منه عن القيادات والرعيل الأول من الدعاة ( أعداء – أصدقاء – تكنولوجيا معاصرة...).
- الجهد الثاني: فقه الإسلام الذي يقوم ابتداءً على مصالح العباد، ضمن الخطوط الكبرى والثوابت التي أقرّها الله تعالى في كتابه وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والساحة من الاتساع بحيث لا تُحدّ إلا بهذه الثوابت، فلا نخالف نصّاً قطعياً ثبوتاً ودلِالة.
- الجهد الثالث: عظَمة المبدعين من الفقهاء في تنزيل هذا الدين على هذا الواقع، والاستفادة من كل ما قدمته البشرية من حضارة مادية وتقنية معاصرة.
- الجهد الرابع: تربية جيل القيادات الذي ذكرنا مواصفاته آنفاً ليكون قميناً بتحقيق هذه الجهود.
***
في الختام، نسأل الله تعالى أن يجزي ضيفنا الكريم د. منير الغضبان خير الجزاء على هذا الحوار، راجين منه تعالى أن يجعل إحياء ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم في كل عام مناسبة لتجديد العزم على لُزوم غَرْزِه واتِّباع سُنّته والإفادة من هذا التراث العظيم الذي أورثنا إياه، عسى أن تُكتب الحياة لهذه الأمة من جديد.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة