يوميات قافلة (شريان الحياة) في حوار مع شاهد عيان
الأستاذ عدنان رشيد: باكستاني مقيم في بريطانيا، من كبار الباحثين في معهد حطّين- لندن، متخصص في التاريخ الإسلامي ومقارنة الأديان والفلسفة الإسلامية، ويُحضِّر لرسالة الماجستير في التاريخ في جامعة لندن في موضوع الحروب الصليبية، وهو أحد المشاركين في قافلة شريان الحياة التي زارت غزة مؤخراً.
التقت به مجلة منبر الداعيات على هامش استضافة المنتدى للتعريف بالإسلام في بيروت له متحدثاً عن تجربته في قافِلة «شريان الحياة»، مديراً لورشة عمل لأساليب التعريف بالإسلام وإقامة الحُجّة على الملحدين والمشركين بالله. فكان معه هذا الحوار:
1. «منبر الداعيات»: حدِّثنا عن مشاركتك في قافلة «شريان الحياة».
· بسم الله والحمد لله. بدأنا رحلتنا في 6 كانون الأول 2009؛ حيث كانت - خلال مرورنا بأوروبا - سهلة وميسّرة، وكنا غالباً ما ننام ليلاً في «كيس النوم»، بينما نمضي معظم النهار في السير في الحافلات. كنت كثيراً ما ألقي الأحاديث وأعرض مواضيع إسلامية، كالسيرة النبوية، لكي أذكّر الشّباب بتحمّل النبي (ص) للمصاعب في حياته. ولقد سُررتُ بمنحي شرف إلقاء أول خطبة جمعة في هذه الرحلة على ظهر السفينة التي تَقِلّنا من «أنكونا» في إيطاليا إلى اليونان. لقد قمتُ بكل ما بوسعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلال هذه الرحلة.
2. «منبر الداعيات»: كيف تقوِّم إدارة القافلة، وأداء رئيسها (غالوي)؟ وهل حدثت أي احتكاكات بين أفراد القافلة نظراً لاختلاف العقائد والتوجهات والأجناس...؟
· بالنسبة لأداء قيادة قافلة «فلتحيا فلسطين» البريطانية، فلقد وجدتُها ضعيفة جداً في بعض الأحيان، والسيد غالوي لم يرافقنا في معظم مراحل الرحلة، إلاّ أنه كان يظهر في المؤتمرات الصحفية ووسائل الإعلام. أما بالنسبة للقيادة التركية - ممثّلة بمنظمة تسمى «المساعدة الدولية» (I.H.H) – فكانت قوية وقدّمت المساعدة بشكل ملموس. كان قائد الفريق التركي السيد «بيولاند» رجلاً محترماً جداً ومحبوباً من مجموعته؛ وقد اكتسب هذا الاحترام بإصراره على السفر مع القافلة والنوم بالخيم مع أتباعه. وخلال الصِّدامات التي حصلت بالعريش، كان الأخ بيولاند يواسي المصابين، و كان الأتراك (بدعمٍ من رئيس وزرائهم) يشكلِّون كلّ الوزن السياسي، بينما أظهرت القيادة البريطانية عدم كفاية وقدرة في المجال السياسي.
وبالنسبة لاختلاف الأجناس والعقائد والتوجهات؛ فالحمد لله لم يحصل أي خصام أو جدل. كانت هناك حوادث وصدامات فردية هنا وهناك، إلاّ أنّ معظم المشاركين في القافلة كانوا متّحدين لهدفٍ واحد، ولم يسمحوا لاختلافاتهم أن تكون عائقاً.
3. «منبر الداعيات»: صف لنا مدى تجاوب الشعوب التي مررتم بها مع قافلتكم.
· لقد كان تجاوب الناس في البلدان التي مررنا بها مدهشاً للغاية. ففي النمسا مثلاً، توجّهت الجالية المسلمة نحونا وطلبت منا النزول في مسجدهم، وهذا ما فعلناه. وقُبيل ارتحالنا كانت دموع الإخوة تذرف وأخذوا يدعون لنا. وفي تركيا امتلأت الطرقات بالناس، وكنا نسمع منهم صيحات «الله أكبر» خلال مسيرتنا في الطرقات، وقد استقبلنا العديد من الأتراك بالعناق والزهور وكأننا عائدون من تحرير غزة.
أما في سوريا والأردن، فقد قُدِّمَت لنا وجباتُ الطعام بالمجّان في أغلب المطاعم، وكذا بعض غرف الفنادق. التقينا برجلٍ فقير جداً في سوريا، قدّم لنا مجوهرات زوجته وابنته وبعض المال لنوصله إلى أهل غزة؛ فأذرفت هذه الحادثة دموع الجميع... حيثما ذهبنا، كنا نُستقبل بأحرّ الاستقبال وأحسن الضيافة. وخلال فترة مُكثي في اللاذقية، قامت ثلاث عائلات فلسطينية بتقديم الطعام لي في الأيام الثلاثة. وخلال الليلتين اللتين قضيتُهما في غزة، التقيتُ أيضاً بأناس من أكثر ما يكون ترحاباً وتواضعاً.
4. «منبر الداعيات»: ما حقيقة ما حدث في العريش؟
· كانت أسوأ تجربة حصلت معنا في العريش (مصر)، حيث هاجمتنا فرق الشرطة الخاصة بمكافحة الشغب مع بعض العناصر الذين يرتدون اللباس المدني؛ استخدمت الشرطة المصرية الغاز والهراوات والحجارة ضدنا لسبب بسيط، وهو أننا كنا نحاول معاونة أناس ليس لديهم أي وسيلة أخرى للحصول على ما يحتاجونه.
في البداية حاولتْ السلطات المصرية حجز بعض الأفراد في المطار ومنعهم من الدخول، فاحتجّ الأعضاء المشاركون في القافلة لساعات، مما جعل جهاز الشرطة يُذعن للأمر ويُخْلي سبيلهم، والحمد لله. وبعدها قاموا بجلبنا إلى مجمّع على الساحل (ميناء العريش) حيث أغلقت السلطات جميع البوابات علينا. وبعد ذلك عرفنا أن مصر لن تسمح لحوالي 50 أو60 عربة نقل بالعبور إلى غزة. وبينما كانت المفاوضات تدور بين قيادة القافلة والسلطات المَعْنية، كنا نتظاهر بشكل سِلمي أمام البوابة المحطّمة. وخلال هذه التظاهرة السلمية، رأينا بعض الشاحنات التي كانت تحمل عناصر يرتدون اللباس المدني تتقدم نحونا. كانت معهم أكياس مليئة بالحجارة، وحينما رأينا هذا تأكدنا أننا سوف نُهاجم من قِبَل الشرطة المصرية. حاول بعضنا الاقتراب من الجنود المصريين (الذين يرتدون اللباس المدني أيضاً) والتحدّث معهم بالمنطق لكي لا يهجموا علينا. ولكن للأسف الشديد قام «إخوتنا» في الشرطة المصرية بمهاجمتنا وأصيب العديد من الناس العزّل من السّلاح... لقد كان حدثاً مأساوياً محزناً.
في السابق كنتُ دائماً أتساءل متعجباً: كيف كان شعور عثمان بن عفّان والحُسَيْن رضي الله عنهما عندما قُتِلا بأيدي أبناء شعبهما!! ولكن هذه التجربة جعلت كل تساؤلاتي المحيّرة تزول!
5. «منبر الداعيات»: حدثنا عن شعورك عند دخولك غزة. وكيف استقبلكم حرّاسها وأهلها؟
· استقبلنا الناس هناك بأذرع منبسطة وبأحسن الترحاب. امتلأت الشوارع بالناس وهم يطلقون صيحات «الله أكبر» على امتداد طريقنا؛ الأولاد والرجال والنساء والشيوخ الكبار في السن كلهم في الشوارع يحيّوننا بأجمل تحيّة. لقد أدخلوا السرور والفرح إلى قلوبنا، والْتأمتْ جراحاتنا ونسينا آلامنا من حادثة العريش. فقد زال تعبنا من الرحلة، واختفت الأمراض وتبدّل الأسى فرحاً وسعادة. وحتى الشرطة هناك استقبلونا بالتّرحاب وأبدَوْا الاحتراف في التعامل.
6. «منبر الداعيات»: كيف وجدتم الاستقبال على المستوى الرسمي؟ وكيف كان البرنامج الذي أعدّته الحكومة لهذه الزيارة؟
· كان استقبالهم لنا حارّاً، والترتيبات التي قاموا بها لإقامتنا في غزة كانت جيدة. لقد تمّ نقلنا من الحدود مباشرة إلى فندق جميل جداً، فأقمنا فيه بدون أُجرة. كان الطعام يقدَّم لنا مجاناً، وقد عوملنا بأحسن معاملة من قِبل الرسميين. كما جهزت لنا الحكومة حافلات سياحية للقيام بجولة في المدينة لنرى الدمار الذي خلّفته آلة الحرب الصهونية، لم يكن هناك أية مشاكل والحمد لله.
7. «منبر الداعيات»: كيف وجدتَ معنويات أهل غزة؟
· لم ألتق في حياتي بأناس أقوى من شعب غزة، فهؤلاء الناس يعيشون تحت الحصار منذ سنوات، وفوق ذلك كله تقوم الطائرات الحربية الصهونية بقصفهم يومياً، ولا يُظهرون - بفضل الله - أي علامات ضَعف، بل على العكس؛ تراهم يقاومون بشتى الوسائل. لقد أفشلوا الحصار عملياً بحفرهم لمئات الأنفاق التي تُستخدم لنقل البضائع يومياً؛ المدينة بكاملها تعيش على هذه الأنفاق، رغم أنّ الطائرات الحربية تقصفها وغالباً ما تقتل العاملين فيها. الحياة في غزة طبيعية: رأيتُ الأولاد يلعبون في الشوارع، شهدتُ التجار يبيعون بضائعهم على الملأ، ومررت بمحلٍّ لبيع الفلافل كان مزدحماً أكثر من محل الماكدونالد في أوروبا الغربية؛ كما رأيتُ محلاً لبيع العصير والشراب... وكلّ المطاعم كانت تعمل بشكل عادي جداً. الشعب في غزة يمتلك معنويات عالية وصُلبة يصعب كسرها.
8. «منبر الداعيات»: حبذا لو نسلِّط الضوء على صور من المجتمع الغَزّي.
· هناك حقيقة واحدة لم أذكرها بعد، وهي الفَقر المُدْقِع في غزة. فمع أن الحياة تسير بشكل عادي في المدينة، إلا أن هناك فقَراً واضحاً وبكثرة. التقيتُ بالعديد من العائلات الفقيرة وكنتُ حزيناً جداً حين اطلعتُ على حالتهم الصعبة والسيئة. تمنّيتُ لو أني أملك كلّ المال الذي بحوزة شيوخ بلاد والخليج لكي أساعد أهالي غزة. وكان بعض الناس في بريطانيا قد تبرعوا بالمال لأهل غزة فقمتُ بتوزيعه على تلك العائلات شخصياً. وشاهدتُ حالات واقعية سيئة للغاية حركتْ بداخلي مشاعر القلق والانزعاج. التقيتُ بعائلة تتألّف من 24 فرداً يعيشون في بيت واحد بدون أي مصدر دخل! وعائلة أخرى تتألف من أم منفردة مع بناتها العشر تعيش في بيت مفتت يوشك على الانهيار... والكثير من الناس يعيشون ظروفاً مماثلة. أعتقد أن إخواننا يمرّون بتلك المعاناة بسبب إهمالنا لواجبنا تجاههم، والله يسألنا يوم القيامة عن أهل غزة، فكيف سنبرّر تملّصنا من مسؤوليّتنا؟ أسأل الله أن يعين إخواننا في غزة، آمين.
9. «منبر الداعيات»: ما أكثر ما أثّر بك في هذه الرحلة؟ وما الذي استفدته من هذه التجربة؟ وهل تكررها؟ وما الانطباعات التي خرجتَ بها؟
· الفَقر الذي يعاني منه المسلمون في غزة كان له أكبر تأثير في نفسي; فنحن لا نرضى بأن يعيش أولادنا هكذا، فلماذا إذن نسمح بأن يعيش شعب غزة بمثل تلك الحال؟ إنها قائمة طويلة من الدروس والتجارب التي اكتسبتها، غير أن هذه الرحلة كانت سبباً في عزمي على تكريس بقية عمري في سبيل الإسلام ونُصرته إلى الأبد. تعلّمتُ أنه ينبغي علينا ألاّ نضيِّع دقيقة واحدة من حياتنا لأنّ الله جعلنا أحراراً لكي نساعد من هم ليسوا كذلك. وهذه الرحلة قد زادت من قوة عزيمتي...
10. «منبر الداعيات»: كلمة لأهل غزة، وأخرى للحكومة المصرية.
· رسالتي إلى أهل غزة:
أقول لإخواني وأخواتي في غزة: إنّ ما تمرّون به هو امتحان، ولهذا عليكم أن تكونوا صابرين. إنّ الله اختاركم لهذا الامتحان، ويقول لكم في القرآن الكريم: (ولا تَهِنوا ولا تَحزنوا وأنتم الأعلَوْن إن كنتم مؤمنين).
· ورسالتي للحكومة المصرية:
(إنّ الذين فتنَوا المؤمنين والمؤمناتِ ثمّ لم يتوبوا فلهم عذابُ جهنّمَ ولهم عذابُ الحريق).
· وأما الشرطة المصرية، فأقول لهم هذه الآية من القرآن الكريم:
(إنّ فرعَوْن وهامانَ وجنودهما كانوا خاسرين).
* * *
في الختام، جزى اللهُ الأخ عدنان رشيد خيراً على هذا اللقاء الطيِّب، سائلين الله تعالى له الأجر والقَبول، ولأهل غزة الفرجَ القريب.
ترجمة: جمال فاعور
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة