في تركيا... مجاهدات من أجل الحجاب
التاريخ:
فى : تحقيقات
1481 مشاهدة
مَنْع الحجاب من أكبر المشاكل الاجتماعية التي تتعرض لها تركيا منذ سنين، مع أن نسبة المحجبات تشكّل 69.4٪ حسب إحصاءات شركة A&G التركية للدراسات.
وهذا المنع ينحصر في مجال التعليم والعمل في الدوائر الرسمية فقط، وليس في القطاع الخاص والحياة المدنية بما فيها الشوارع والمطاعم وما إلى ذلك.
متى بدأ منع الحجاب في تركيا؟ ولماذا؟ وما هي معاناة المحجبات بسبب حجابهن في تركيا؟ وما الغرض من هذا المنع الظالم؟
لمعرفة الإجابة عن هذه الأسئلة رجعنا إلى صفحات تاريخ العقود الماضية التي شهدت هذا الظلم.
إن منع الحجاب من القرارات التي فرضها الجيشُ التركيُّ التابع للحكومة التي ترأسها نجم الدين أربكان رئيس الحزب الإسلامي «الرفاه»، وقد نفذ في 28 شباط 1997. وأول جامعة نُفّذ فيها هذا القرار هي جامعة إسطنبول التي تعتبر من أكبر الجامعات وأقدمها؛ حيث إنها أُسست بعد فتح إسطنبول عام 1453. حينذاك قال رئيس الجامعة كمال آلمدار أغلو كلمته الشهيرة: «من الممكن التوقف عن العلم من أجل تنفيذ قرار منع الحجاب»*. عندها انتشر هذا المنع في جميع المراحل التعليمية، ومنها الجامعات والثانويات الشرعية! إضافة إلى إلغاء قسم المدارس المتوسطة الشرعية.
غرف الإقناع
وجدت الطالبات المحجبات أنفسهن أمام عقبة كؤود عند تقدمهن للالتحاق بجامعة إسطنبول وتجديد التسجيل فيها عام 1998؛ حيث إن كل طالبة لم ترض بخلع الحجاب أُجبرت على الدخول على حدة إلى إحدى غرف الإقناع، التي هي من ابتكار د. نور سرتر مساعدة رئيس جامعة إسطنبول، لإقناعهن بخلع الحجاب، الأمر الذي أثّر في نفسيات الطالبات بشكل سيء وعميق على مدى السنين.
مريم قاسم الطالبة المطرودة من جامعة إسطنبول - كلية العلوم / قسم الفزياء - خُيّرت بين إكمال دراستها بلا حجاب ودخولها إلى غرفة الإقناع. ولمّا اختارت الثانية وجدت محاولة كبيرة من قِبل أستاذة في الجامعة لإقناعها بمتابعة دراستها بلا حجاب، مما تسبّب لها بضغطٍ نفسي شديد. ولما أبت الخضوع لقرار نزع الحجاب حُرمت من إكمال دراستها الجامعية بعد أن أنهت ثلاث سنوات من اختصاصها، وما زالت حتى الآن تنتظر الفرصة.
معاناة المحجَّبات وذويهنّ
مُنعت المحجبات عن الدراسة في كل المراحل التعليمية وعن العمل في الدوائر الرسمية، وحتى أزواجهن عانوا مشاكل كبيرة في ساحة العمل. على سبيل المثال، حُرم دكتور جامعي من رفع منصبه إلى الدكتوراه بسبب حجاب زوجته. وأما في القطاع الخاص الذي يسمح لهن بالعمل بالحجاب، فقد تم استغلالهن من قبل أرباب العمل حيث اشتغلن بأجور أقل مقارنة بغيرهن من النساء. وليس مثال تلك المدرّسة، التي تخرجت من جامعة مرمرة - التي تعتبر من أحسن الجامعات في تركيا - ثمّ درّست في القطاع الخاص بنصف أجرة المدرّسات، عنّا ببعيد.
ردود الأفعال
ما إن نُفّذ قرار المنع حتى بدأت المقاومة ضده بمظاهرات كبيرة، إضافة إلى المسيرات والإضراب عن الطعام والاعتصامات السلمية أمام الجامعات. اشتركتْ في تلك المسيرات حشود كبيرة مشت من إسطنبول إلى البرلمان في أنقرة في 22 يونيو 1998. وفي 11 أوكتوبر 1998 قاموا بمظاهرة تحت عنوان «يداً بيد من أجل الحرية» وساروا سلسلة من الناس بلغ طولها عشرات الكيلومترات. في تلك المظاهرة اعتُقل 600 متظاهر مع أنها كانت سِلْمية، وكان عدد رجال الشرطة ثلاثة أضعاف المحجبات، جاؤوا بتجهيزات ثقيلة: بوحدات مدرّعة ودبابات صغيرة لرشّ الماء، فواجهوا المتظاهرين بالضرب ورش الماء البارد والغاز المسيِّل للدموع والاعتقال، وكأنهم يواجهون مجرمين. وقد بلغ عنف رجال الشرطة مع المتظاهرين أن الطالبة الجامعية نوراي جنان بزيرغان البالغة 21 سنة أصيبت بإجهاض وكُسِر ذراعها.
بالإضافة إلى المظاهرات، قُدمت طلبات وأُرسلَتْ رسائل إلى الجهات الرسمية، مثل رئاسة الجمهورية والوزراء والبرلمان والنواب، كما تم استنفاد جميع الوسائل القانونية في تركيا لمنع تطبيق هذا القانون، ولكن دون أي استجابة. ومن ثم رُفعت دعوى في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي سنة 2004 حكمت المحكمة ضد ليلى شاهين الطالبة المطرودة بسبب حجابها من كلية الطب بحجة أن «منع الحجاب ليس انتهاكًا لحقوق الإنسان» مما خيّب أملُ المحجبات في أوروبا التي تدّعي أنها مع الحق والحرية بشكل دائم.
حملات تشجيع على الدراسة للبنات
بينما كان العلمانيون يمنعون المحجبات عن الدراسة بدأوا بحملات كبيرة لتشجيع البنات الصغيرات اللاتي لم يسمح آباؤهن بإكمال دراستهن، ولا سيما في شرق تركيا؛ الذي لا قيمة فيه للبنات حيث إنه لو سئل أبٌ عن عدد أولاده يذكر الذكور فقط لأنه لا يرى بناته إلا عبءً على ظهره. واستغل العلمانيون هذه الظاهرة المأساوية وحققوا نحاجات كبيرة في حملاتهم بشعارات جذابة، منها: «هيا بنات إلى المدرسة» و «يا أبي أرسلني إلى المدرسة». ومن خلال هذه الحملات غرسوا في أذهانهن أفكارهم العلمانية فأفسدوهنّ خُلُقاً وديناً وثقافة.
دور الإعلام في تنفيذ منع الحجاب
أما الإعلام التركي، فهو بقنواته وإذاعاته وجرايده ومجلاته بيد العلمانيين، وله تأثير كبير في الرأي العام وحتى الحكومات. وفي تنفيذ قرار منع الحجاب كان دور الإعلام أساسياً أكثر من دور الجيش في بعض الأحيان، حيث فرّق بين الحجاب التقليدي والحجاب الحديث الذي ترتديه الفتيات؛ فجعل الأوّل رمزاً سياسياً يهدد العلمانية في الجمهورية التركية. وبلغت الوقاحة بفاتح آلتايلي - المدير العام لجريدة «خبر تورك» ورئيس تحريرها - الذي كان وقتذاك يكتب في جريدة «الحرية» التي لها دور كبير في توجيه سياسة تركيا، أن ذكر سنة 1999 في الجريدة نفسها ألفاظاً بذيئة تسيء إلى عفة المحجبات.
أما بالنسبة للرأي العام العالمي، فهناك من لم يسمع بهذا القرار الظالم البتة، وهناك من يتحيّر ولا يصدق تنفيذ هذا المنع حتى ولو سمع ممن تعرّض له؛ كما حصل مع أم كلثوم (الطالبة الكينية في كلية الطب) التي قالت: «لم تقبل الجامعة طلبي الذي قدمته لأتسجّل فيها بسبب حجابي. وعندما قصصتُ ما جرى لأهلي وصديقاتي في كينيا لم يصدقوني!
وبينما تعاني المحجبات من مأساة كبيرة بسبب استمساكهنّ بتنفيذ أوامر الله رغم أنف العلمانيين، لم تكن هناك أية ردة فعل من قبل العالم الإسلامي!
انعكاسات منع الحجاب على حزب «العدالة والتنمية»
بعد نجاح حزب «العدالة والتنمية» في انتخابات البرلمان سنة 2002 بنسبة 34.43٪ اكتسبت مشكلة الحجاب بُعداً آخر. فقد شملت هذه المشكلة زوجات الرؤساء والوزراء والنواب المحجبات - وكان حجاب زوجات السياسيين سابقة تحدث لأول مرّة - الأمر الذي يدل على أنّ هذا المنع لم ينحصر في مجال التعليم فحسب، بل انتشر في الاستقبالات والزيارات والحفلات الرسمية، ورغم المشاكل التي حصلت بين الجيش والحكومة لم تتنازل أيٌّ منهن عن حجابها.
وتحولت المشكلة إلى أزمة سياسية وقت انتخابات رئاسة الجمهورية من قِبَل البرلمان بسبب حجاب خير النساء زوجة المرشح عبد الله غل؛ فمع أنه نجح في الانتخابات بحصوله على 357 صوتاً في 27 نيسان 2007، فقد ألغت المحكمة الدستورية هذا التصويت - رغم أن هذا العدد من الأصوات يفوق بكثير الأصوات التي نالها الرئيس السابق للوصول إلى سدّة الرئاسة - الأمر الذي جعل الحكومة تتخذ قرار الانتخابات المبكرة. إلا أن نسبة التصويت للعدالة والتنمية ارتفعت إلى 46.54٪، عكس توقعات العلمانيين، مما سهّل على عبد الله غل النجاح في الانتخابات لرئاسة الجمهورية.
الواقع الحالي
وفي يومنا هذا تنقسم الطالبات المحجبات إلى ثلاثة أقسام، الأول: الطالبات المحجبات اللاتي يدرسن بلا حجاب؛ أي يخلعن حجابهن أو يضعن شعرًا مستعارًا على رأسهن من أجل إكمال الدراسة في كل المراحل التعليمية، وهذا النوع يشكل الغالبية. والقسم الثاني: الطالبات اللاتي يكملن دراستهن في الخارج. أما القسم الثالث فهنّ اللاتي توقّفن عن الدراسة قسراً ولكنهن يكملن دراستهن إما في معاهد خاصة شهادتها غير معترف بها من قبل الدولة، وإما في المدارس خاصة برسوم عالية جداً، أو في المدارس حكومية عن طريق الانتساب مع وجود صعوبات... أما في المرحلة الجامعية الانتسابية فعدد اللاتي يمثلن هذا النوع قليل.
وما السبب في هذا؟ قبل منع الحجاب كانت هناك مدرسة متوسطة شرعية تلتحق بها خريجات المدرسة الابتدائية اللاتي يرغبن في الدراسة بالحجاب ويدرسن فيها بكل راحة. أما بعد المنع، فقد أُلغيت المرحلة المتوسطة وجُمعت مع المرحلة الابتدائية لتكون ثماني سنوات متتالية إجبارية. ولتنفيذ هذا القرار أُغلقت كل المدارس المتوسطة الشرعية، الأمر الذي أغلق كل الطرق على مَن تريد الدراسة بالحجاب في المرحلة المتوسطة.
محاولات لحل المشكلة
قامت حكومة أردوغان بمبادرات لإنهاء هذه المشكلة المزمنة والمعقدة؛ فغيّر حزبُ العدالة والتنمية - بدعم من حزب الحركة القومية - المادة من الدستور التركي لحل المشكلة. ولكن المحكمة الدستورية رفضت الاستجابة لطلب حزب الشعب الجمهوري بإلغاء المادة مع أنها وَجدت قبولاً من قبل البرلمان التركي بـ 411 صوتاً من بين 550، صوتاً، وبعد ذلك بشهر رفعت دعوى لإغلاق حزب العدالة والتنمية بسبب تغيير المادة وحكمت عليه بعقوبة تتمثل بالحدّ من المبلغ الذي يأخذه الحزب من خزينة الدولة.
ويبقى الأمل...
لم يتمكن أي طرف من الأطراف من إيجاد حلٍ فِعلي للمشكلة، بل ظلّت - للأسف - موضوع نقاش وورقة لاستغلال الأصوات في الانتخابات.
هذه المشكلة المزمنة عاشتها التركيات من أسلافنا في الستينيات والثمانينيات، غير أنهن تمكّن من العودة ورجعن إلى المدارس وأكملن الدراسة بحجابهن. أما نحن فما زلنا نأمل الحل الذي نراه من خلال آيات الله تعالى، منها قوله عز وجل: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهِهم واللهُ مُتِمُّ نورِه ولو كَرِهَ الكافرون}.
فدين الله باقٍ وواجبنا الثبات على الحقَ: (فإن مع العُسر يُسراً) مع مواجهة الباطل والظلم بكل الطرق المشروعة: (ولولا دفع الله الناس بعضَهم ببعضٍ لهُدِّمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكَرُ فيها اسمُ اللهِ كثيراً، وليَنْصُرَنَّ اللهُ مَن ينصُرُه، إنَّ اللهَ لقويٌّ عزيز) وإذا لم ننصر إخواننا وأخواتنا في تركيا فنحن على خطر أيضاً، (والعاقبة للمتقين)l
هامش:
* جريدة YeniŞafak.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة