الحج... شعائر ومشاعر
حوار أجرته منبر الداعيات مع الأستاذة إباء الدريعي لنتوقف معها عند معاني الحج والخُلُقيات التي يجب أن تتحلّى بها مَن تريد أداء مناسك الحجّ والعمرة، وآثار الحجّ التربوية على الفرد والأمة وغيرها من الأسئلة.
"منبر الداعيات": ما أبرز الخُلُقيات التي يجب أن تتحلّى بها من تريد أداء مناسك الحجّ والعمرة سواء بشكل عام أثناء أداء المناسك أو بشكل خاص مع المقيمات معها في الحملة؟
- الحج فريضة شرعية وخامس أركان الإسلام، تجب على المسلم المستطيع في حياته مرة واحدة، ينتقل فيها من بلده إلى بلد لا يعرفها وظروف لم يألفها ينفق فيها ماله ويترك عياله ويبذل جهده متكبداً مشاق السفر ويتعرّض لمواقف ربما لم يتعرض لها سابقاً في بلده وبين أهله وإخوانه. وقد سُمّيَ السفرُ سفراً لأنه يُسْفِر عن أخلاق الناس. لذا فمن الضروري أن يكون الحاج قد تهيَّأ نفسياً ليكون ضمن الملايين من البشر وضمن مجموعات ضخمة من الناس يعايشها ويؤاكلها ويشاربها فترة من الزمن، وأهم ما في الأمر أن تتمتع الحاجَّة التي قصدت بيت الله بسعة الصدر والحِلْم وشدة الصبر مع الرزانة الشديدة؛ حيث لن تكون في موقف الحجّ بمنأى عن الرجال فالحرص على ألاّ تتكلم إلا لضرورة وتبتعد عن الجدال والفسوق والكلام الجارِح مهما كانت الظروف، متذكرة قوله تعالى: (الحجُّ أشهرٌ معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفَث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب).
وعليها أن تكون أختاً وأماً وراعية مع أخواتها في الحج، تتجاوز عن الإساءة وتبتعد عن الأنانية، تتعاون مع الجميع لما فيه المصلحة العامة، وتكون ناصحة أمينة مبتسمة دائماً مستبشرة راضية أنْ أنعم الله عليها بأداء هذه الفريضة العظيمة. وتهوِّن على نفسها وعلى أخواتها التعب، وكلّما كانت متعاطفة مع الآخرين، ازدادوا لها حباً ومنها قُرباً مما يؤدي إلى مزيد من التآلف والتآخي وهذا الأمر هو من مقاصد الحج، وإذا رزقها الله علماً عليها أن تعلّم أخواتها المناسك ولا تبخل على سائلة في أمر أو مسألة من المسائل.
2. "منبر الداعيات": عرفنا حج الأبدان في تلك البقعة المباركة؛ فكيف يكون حجّ القلوب؟
- كما في سائر العبادات فرضها الله سبحانه وتعالى على المسلمين قد يؤديها المسلم ببدنه وقد يؤديها بقلبه، فإذا كانت صلاته صلاة جوارح كانت النتيجة: «رُبّ مَصَلٍٍّ ليس له من صلاته إلا السهر والتعب»؛ وإذا كان صيامه عادة لا عبادة كانت النتيجة: «رُبّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش». وكذلك الأمر بالنسبة للحج؛ فالمعاني التي تحملها هذه الفريضة العظيمة هي معانٍ قلبية تهذِّب النفس وتعيدها إلى الله وتذكّرها بالآخرة وهذا هو حج القلوب، فذِكر الله تعالى من غايات الحج ومقاصده العظام كما يُلْمَحُ ذلك من قوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذِكْرِكم آباءكم أو أشدَّ ذكراً)؛ فالتضرع والابتهال والمناجاة وإظهار الافتقار إلى الله تعالى والاحتياج إليه ولزوم الذكر بحضور قلب والمسارعة إلى فعل الخيرات وترك المعاصي وغضّ البصر وتجنب المحرمات، كل ذلك هو الحجّ الحقيقي، وكما ذُكر عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوله لما خطب الناس بعرفة: «ليس السابق من سبق بعيره وفرسه ولكن السابق من غُفِرَ له».
3. "منبر الداعيات": هل من مؤشّرات معينة لما يُحْدِثه الحج المبرور في نفس صاحبه وسلوكه وتفكيره؟
- قال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق عاد كيومِ ولدته أمه». لذا فمن المؤكد أنّ المسلم الذي أدّى فريضة الحج كما أمر الله تعالى ستحدث فارقاً في حياته، وسيكون هناك ربما انقلاب في موازين تفكيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى سيكرمه بالقرب منه، وهذا مؤشر مهم على المرء مراقبته بعد حَجّه؛ فإن كان بعد حجِّه خيراً مما كان قبله، كان ذلك دليل قَبولٍ عند الله ومغفرة، وإن كان غير ذلك، كأن عاد إلى التفريط في حقّ الله وحق الناس وإلى التهاون بالحقوق وترك الواجبات ولم يتورَّع عن الشبهات، فعليه إعادة النظر في ذلك والتوبة والتوجه من جديد إليه سبحانه فهو «الحليم الذي لا يعجل وهو الجواد الذي لا يبخل».
4. "منبر الداعيات": ما هي آثار الحج التربوية على الفرد والأمة؟
- لاشك أنه في الحج تتجلى آثار القدرة الإلهية ويقف المرء مدهوشاً صامتاً أمام عظمة المشهد، حيث نرى الحجيج إلى بيت الله الحرام يجسّدون أشد المعاني سمواً ألا وهي العبودية لله عز وجل وهذا شرفٌ عظيم وفضل عميم على هذه الأمة. هناك تنتفي كل مظاهر الاختلاف والتناحر وتنهزم كل الشعارات الجاهلية. الكل متوجه إلى الله بقلب واحد وصوت واحد: «لبيك اللهم لبيك». هناك يظهر واضحاً قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وهذا من مقاصد الحج حيث يذكّرنا المولى أننا في هذه الدنيا مخلوقون لعبادته وآثار ذلك تكون في وحدة المسلمين وجمع قلوبهم ولمّ شملهم ورصِّ صفوفهم كما يقفون في عرفات في موقف واحد، عليهم أن يكونوا هكذا دائماً؛ فالحج فرصة سانحة لتوحيد الأمة وتحذيرها من الفتنة ودواعي الفرقة وما أحوجنا اليوم إلى هذا المعنى وتجسيد هذا الأثر التربوي ونحن نرى الفُرقة تمزق الجسد الواحد ولا نجاة لنا إلا بالاعتصام بحبل الله تعالى والتلاقي والتآخي حقاً فيما بيننا متمثلين بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ ربكم واحد، وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى».
5. "منبر الداعيات": كثير من المسلمين والمسلمات قد لا يتمكنون من أداء فريضة الحج هذا العام؛ فهل من عبادات بدنية أو قلبية معينة ممكن القيام بها في هذه الأيام المباركة؟
- قال تعالى: (ولله على الناس حِجّ البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)؛ فالاستطاعة البدنية والمالية شرطٌ لوجوب الحجّ ومن كَرَمِه سبحانه أنه لم يحرم غير القادر على الحج من الأجر والثواب، فجعل أيام العشر الأُوَلْ من ذي الحجة أحب الأيام إليه، كما في الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء». فكل عمل صالح يبتغي فيه المرء وجه الله، له فيه عظيم الأجر والثواب كالصدقات، وصلة الأرحام، وصيام يوم عرفة وتاسوعاء وعاشوراء وكثرة الذكر، وإصلاح ذات البين. والموفَّق من وفّقه الله عز وجل لهذا الخير.
6. "منبر الداعيات": ما هي دِلالات ومعاني عيد الأضحى المبارك؟ وما السبيل لإعادة إحيائها من جديد في نفوسنا وحياتنا؟
- إذا عدنا إلى الوراء آلافاً من السنين حينما ترك إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر رضي الله عنها في الصحراء فنادته: «يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيِّعَنا». نرى هذا المعنى الرائع في التوكل على الله وهذا اليقين الصادق بالله، وهما من معاني عيد الأضحى المبارك، ولو نظرنا إلى مناسك الحج لوجدنا أننا نقوم بما قام به إبراهيم عليه الصلاة والسلام وزوجته هاجر؛ فمن السعي بين الصفا والمروة إلى رمي الجمرات إلى الطواف حول الكعبة إلى ذبح الأضاحي لغير الحاج، كل ذلك اقتداء بسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. هذه المعاني تحيا في النفوس إذا تفكَّرنا في الحكمة من كل فعل، وإذا طبقنا ذلك سلوكاً وعملاً في حياتنا فذبح الأضاحي إضافة إلى أنه من أروع أنواع التكافل بين الناس بحيث يفرح الجميع ويأكلون ويشربون امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى»، فهو يعلمنا معنى التضحية والانقياد لأمر الله عز وجل، وهذا يحتاج من المسلم جهاداً عظيماً للنفس وعوناً كبيراً من الله. وأيضاً فعيد الأضحى المبارك هو هدية ربّانية ليفرح الناس الفرح المباح؛ لذا فمن الضروري دائماً أن يكون العيد مناسبة لإدخال الفرح في القلوب، صغاراً وكباراً ومناسبة أيضاً للتلاقي والتآخي ونبذ الخلافات والعودة إلى المولى تبارك وتعالى.
ختاماً: ونحن على أبواب هذه الأيام المباركات علينا أن نستشعر قيمة الحج، حتى وإن حالت الظروف عن تأدية هذه الفريضة نستذكر ما فيها من معانٍ، ونتجاوب مع ما تثيره في النفوس من تقوى وتربية.
المصدر: منبر الداعيات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة