حميدة قطب في عيون زوجها
حديثٍ خاص لمنبر الداعيات:
أفضل مَن يتحدّث عن الإنسان شريكه... شريك حياته، روحه، آماله، آلامه، أحلامه... لهذا كان اختيارنا للبروفوسير الدكتور حمدي مسعود زوج الأخت الأديبة المجاهدة الداعية حميدة قطب رحمها الله، ليحدِّثنا عن جانبٍ من شخصيتها بعيداً عن الأضواء... ولنتعرف على الشريك الذي اختارها واختارته ليكملا معاً درب الحياة بكل ما فيها...
وضيفنا من مواليد القاهرة 1940، يحمل درجة البكالوريوس في الطب والجراحة من كلية الطب - القصر العيني - جامعة القاهرة، وهو حالياً أستاذ جراحة القلب والأوعية الدموية في كلية الطب - جامعة باريس - المستشفى الجامعي - جورج بومبيدو الأوروبي. شغل العديد من المناصب العلمية والأكاديمية والاجتماعية... فإلى الحوار:
1. "منبر الداعيات": لو عدنا إلى عقودٍ خلت لنسأل: ما كان موقعك من حركة الإخوان المسلمين في فترة المحنة؟ وكيف اتخذت قرار مصاهرة عائلة الشهيد سيد قطب بالزواج من أخته حميدة؟ وما ظروف ذلك؟
- إذا عدنا لعام 1951 عندما بدأت دراستي الثانوية بالسنة الأولى بمدرسة الإبراهيمية الثانوية.. كان لهذه المدرسة ما يسمى بـ «برلمان المدرسة»، وذلك لمناقشة ومتابعة حياة الطلاب والعمل على حل مشاكلهم بالمشاركة مع هيئة التدريس، وكنتُ عضواً فيه، وكانت تجمعني صداقات مع أعضاء النادي ومن بينهم شباب من حركة الإخوان المسلمين.
أما بالنسبة لقرار مصاهرة عائلة الشهيد سيد قطب بالزواج من أخته حميدة فهذا القرار اتّخذ بعد سنوات من اللقاء الأول به فى أكتوبر 1960 عندما أُحضر للعلاج بمستشفى القصر العيني محوَّلاً من مستشفى سجن طرة، وكذلك في الفترة الثانية حين أعيد إلى مستشفى القصر العيني للعلاج في 1961، وعند خروجه من السجن والإفراج عنه بعفو صحيّ شامل... تقدْمتُ لأسرة الشهيد في عام 1964 للزواج من أخته حميدة، ولكن أثناء الاستعدادات هبّت عواصف محنة 1965، ولم تنقطع علاقاتي بالأسرة طوال سنوات المحنة نظراً لأنني لستُ خاطباً لـ (حميدة) فقط بل أيضاً طبيب العائلة ومستشارها الطبي فيما هو خارج اختصاصي، حتى مَنَّ الله عليها وعلى أفراد الأسرة وعلى رأسهم الشقيق الأستاذ محمد وباقي أفراد العائلة بالخروج من المعتقلات والسجون، وتمّ عقد القِران في نهاية سبتمبر 1972 أي بعد خطوبة دامت ثماني سنوات.
2. "منبر الداعيات": من خلال معايشتك لمحنة آل قطب... ما الخلاصة التي خرجت بها بعد مرور كل تلك السنين؟
- إنها ليست خلاصة واحدة ولكنها خلاصات كثيرة وكبيرة وعظيمة المعنى والأثر من حيث الكم والكيف...الأمر الذي لا تتسع له صفحات وسطور المجلة، ولكن أحاول أن أوجزها بقدر الإمكان في السطور التالية:
أولاً: ضرورة الثبات على الحق مهما كان حجم الظلم والطغيان، وكذلك أهميّة التوكل الكامل التام والثقة المطلقة فى عَوْن وعناية الله سبحانه وتعالى لأوليائه المخلصين الذين وعدهم بإحدى الحُسنيين.
ثانياً: مهما انتفش الباطل ومهما علا الفراعنة في الأرض فإنه لا بدّ أن تبرز شمس الحقيقة على ظلمات الأكاذيب والافتراءات.
ثالثاً: لقد أعادت هذه الأسرة بثباتها على الحق - بفضلٍ من الله ونعمة - صورة ثبات المسلمين الأوائل في عصور الاضطهاد. وصور كل الصامدين الشهداء في وجه الظالمين إلى يومنا هذا.
3. "منبر الداعيات": عرفنا حميدة المجاهدة الداعية الأديبة؛ حبذا لو تحدثنا عن حميدة الزوجة التي اختارت أن تُمضي بقية أيام حياتها مع زوجها في الغربة. وماذا تحمل من ذكريات اللقاء الأول بحميدة وكذا السنة الأولى من زواجكما؟
- في فرنسا كانت بداية حياتنا الزوجية باستمراري في مشروعاتي التخصصية، وكذلك شرعنا معاً في تأسيس منزل مؤقت لقضاء فترة الإقامة المؤقتة بفرنسا قبل العودة إلى مصر، والحصول على المؤهلات والخبرة اللازمة لتخصصاتي الطبية، وفي الوقت نفسه تسجّلت حميدة في معهد متخصص في تدريس اللغة الفرنسية لحميدة؛ وذلك بالتوازي مع تسجيلها في جامعة باريس لإكمال دراستها الجامعية بكلية الآداب التي كانت توقفت في القاهرة بسبب ظروف الاعتقالات والمحاكمات؛ تلك الدراسات التي تمّت بتوفيق من الله سبحانه وتعالى بالحصول على شهادة الليسانس في اللغة العربية ثم في مادة التاريخ، مما مهد لها فيما بعد لتسجيل رسالة جامعية في مادة تاريخ العصور الوسطى، وكان موضوعها التحكيم بين (عليّ ومعاوية) بناءً على اختيار الأستاذ الفرنسي المشرف على الرسالة... وهكذا كان العام الأول من زواجنا. ولم يمنعها هذا من قيامها بنشاطها داخل المنزل باعتبارها زوجة تساند زوجها في مهمته الصعبة، ولا من تخصيص أوقات ولقاءات لاستقبال من ترغب من المسلمات في المنزل بفرنسا سواء كُنَّ من أصول عربية ومصرية أو من أصول فرنسية وأجنبية؛ هذه اللقاءات التي تحوّلت فيما بعد إلى شبه صالون ثقافي.
ولا تفوتني في بداية إجراءات إقامتنا ذكريات استخراج بطاقة الإقامة لها؛ حيث رفضت الجهات المختصة بفرنسا استخراج هذه البطاقة بصورة حميدة بحجابها، وطلبت صوراً أخرى بدون غطاء للرأس! ولما كانت لا توجد قوانين تمنع من ظهور المحجبة على بطاقة الإقامة، ذهبت حميدة إلى المسؤولة عن إقامة الأجانب وناقشتها باستخراج بطاقة بصورتها وهي محجبة، فسُمح لها بذلك، وكانت سابقة فريدة من نوعها، وكان موقفاً مستغرَباً في بلاد الحريّة والمساواة أن تبيح حريّة العري ولا تبيح حريّة الاحتشام.
أما من ذكرياتي الخاصة على المستوى العائلي وداخل البيت، فلطول انشغالي بأعمالي طول النهار بالمستشفى كانت في البداية تقضي معظم الوقت بمفردها في أعمال المنزل ومراجعة دروس اللغة الفرنسية، وحين أعود في المساء تداعبني قائلة: "يبدو أنه يجب عليّ قضاء باقي مدة العقوبة (10 سنوات) في الحبس الانفرادي بالمنزل"...
4. "منبر الداعيات": هل أثّرت الغربة على عطاءات حميدة خاصة في سنوات صِباها؟ وما ملامح المرحلة التي عاشتها في باريس: كيف تابعت جهادها ودعوتها ومسيرتها الأدبية؟
- آثار الغربة كانت إيجابية بكل ما تحمل الكلمة؛ فقد قامت بمتابعة جهادها ودعوتها وكذلك مسيرتها الأدبية على أكمل وجه؛ حيث أخلصت النية لله مما أعطاها طاقات متدفقة في كل المجالات: في حياتها الأسرية وداخل بيتها كانت خير عون لي في تلك الظروف الصعبة أثناء التحصيل العلمي الدقيق في تخصص تحتاجه الأمة الإسلامية؛ مما حدا بي أن أشير إلى دورها في هذه النجاحات بعد فضل الله، ثم فضل جهودها ومثابرتها بجواري. وبالإضافة لكل هذه الجهود فقد تمكّنتْ من إنهاء دراستها الجامعية وحصولها على الشهادات في مجال اللغة العربية والتاريخ واللغة الفرنسية. كما تميّزت تلك الفترة بالاستمرار في مسيرتها الأدبيّة التي تبلورت في إنتاج مجموعاتها القصصية وسائر مؤلفاتها.
كل هذا لم يمنعها أو يَحُول بينها وبين استقبال من حضر من أفراد العائلتين للعلاج والاستشفاء بفرنسا على فترات طويلة. حوّلت حياتنا إلى صورة مصغّرة من نعيم الجنّة الأسريّة والعائليّة؛ حين نحيا في كنف تعاليم الإسلام من قرآن وسُنة.
5. "منبر الداعيات": هل أثّر السجن على معنويات حميدة؟ وما الذي حملته معها من وراء القضبان؟
< إن أبرز ما حملته معها من وراء القضبان هو الحفظ الكامل للقرآن الكريم؛ حيث أتمّت حفظه في فترات الحبس الانفرادي داخل السجن الحربي. كما حملت معها الكثير من الذكريات والمواقف، سواء ذكريات التحقيقات قبل المحاكمة الهزلية أو أثناءها، أو حتى بعد صدور الأحكام، وقد شهد بثباتها الأعداء قبل الأصدقاء أو زملاء ورفاق المحنة من الإخوة والأخوات، وخاصة الأم العزيزة السيدة زينب الغزالي رحمها الله. وكنتُ ألحظ ارتفاع معنوياتها أثناء زيارتي لها داخل السجن عندما يُسمح لأفراد الأسرة بذلك... حتى أثناء فترة مرضها حيث أصيبت بالتهاب حادّ في الزائدة الدوديّة، ونُقلت تحت حراسة مشدّدة من ضباط وجنود الشرطة العسكرية إلى مستشفى دار الشفاء في أبريل 1967م. وأُجريت الجراحة العاجلة وسط ذهول الأطباء من حجم الحراسة التي صاحبتها قبل وأثناء وبعد الجراحة!
وقد تمتعتْ بفضل الله بروح إيمانيةٍ عالية في أصعب موقفين يمكن أن يتعرض لهما إنسان تجاه أشخاص أعزاء عليه؛ الموقف الأول حين استُشهد أخوها في الرضاعة المهندس الجيولوجي رفعت بكر شافع؛ فقد استُشهد تحت سياط التعذيب بعد اعتقاله بأيام معدودات، وهددها زبانية السجن الحربي هي ومن تبقّى من أسرتها بالمصير نفسه. والموقف الثاني هو اللقاء الأخير قبل ساعاتٍ من تنفيذ حكم الإعدام في شقيقها سيّد رحمه الله، والمساومات التي تعلمون عنها ونُشرت في مختلف الصحف والكتب والمذكرات، وعبرت عنها في آخر قصصها "في أحراش الليل".
6. "منبر الداعيات": ماذا بعد حميدة؟ هل تخطط لإقامة مشاريع تخلّد ذكراها؟
- رغم صعوبة الإجابة عن هذا السؤال لأنه لا خلود إلا لله وحده سبحانه وتعالى، ولكن نحاول أن نتطرق إلى بعض من آثارها المكتوبة أو المسموعة أو المقروءة ما يُفيد الأجيال المعاصرة والآتية في مسيرتها الدعوية. ربما تكون بعض هذه المشاريع على سبيل المثال لا الحصر جائزة أدبية تحمل اسمها واسم أمينة شقيقتها رحمهما الله في إطار الأدب الإسلامي العالمي، والمهتمين به من جمعيات ونوادٍ ودوريات، وكذلك من الأفكار إنشاء جمعية أدبية إسلامية تحمل اسم «صديقات حميدة قطب». وباب الاقتراحات مفتوح والوسائل متعددة للاستفادة من تراث هذه الأسرة الكريمة في شتى المجالات سواء منها الأدبي أو الدعوي.
7. "منبر الداعيات": كلمة أخيرة؟
- أخيراً... ماذا أقول؟!!! ليس لي إلا أن أحمد الله حمداً طيباً كثيراً عظيماً أن مَنَّ عليَّ بلقاء هذه الأسرة الكريمة أولاً، وبما أنعم عليّ بالنسب والزواج منها ثانياً. وكما ذكرت سَلَفاً كيف مَنَّ الله عليَّ بشريكةِ حياةٍ أعانتني على الطريق خير عون وفي أقوى صورة، فأدعو لها وللأسرة جمعاء بخالص الدعاء لله عز وجل أن يُسكنها ويسكنهم جميعاً الفردوس الأعلى، كما أدعو الله - وأسالكم جميعاً أن تدعوا لي بالثبات على الصراط المستقيم، وأن يُلحقني الله بعباده الصالحين ويجمعني بهم في الآخرة.
***
وفي الختام أقول: علينا أن نعمل جاهدين لنوجِد في هذا الجيل نساءً متميّزات كمثل حميدة رحمها الله رحمةً واسعة... وهذا يتطلّب تضافر كل الجهود والطاقات... وتجاوب بنات هذا الجيل مع الجهود التربوية التي ينبغي أن تُبذل من أجل بناء شخصيّاتهن لتكون فاعلة مؤثرة قويّ عصية على محاولات التمييع والتجهيل... ونشكر الأخ الفاضل أ. د. حمدي مسعود على ما أمتعنا به في هذا الحوار رغم آلامه من مرارة الفَقْد، فجزاه الله عنا كل خير
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة