كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ) (البقرة: 249)
تسلط الآية الكريمة الضوء على قضية مهمة في حياتنا، هي قضية الكمّ والنوع، وعلى العلاقة بينهما؛ ففي القرآن الكريم: حين خرج طالوت لحرب جالوت خرجت معه الألوف المؤلفة من الجند قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (البقرة: 249) هذا هو الكم، فأراد أن يعرف نوعية الرجال الذين سيقاتل بهم فمنعهم من الشرب من النهر، فشرب منه السواد الأعظم منهم، ولم ينجح في ذلك الامتحان سوى ثلاثمئة مقاتل، وكان موقف هذه القلة القليلة من جيش جالوت الموقف الذي يتناسب مع نوعيتهم، (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ...) وهذا هو النوع، هذه الفئة القليلة هي الغالبة، لأنها استحقت تأييد الله ونصره؛ لأنها نصرت أمره، ونصرت دينه، وختمت الآية: (واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) إشارة إلى أن هذه الفئة كانت تتحلى بالصبر الضروري لمجالدة العدو.
إن للنوع شأناً، وأي شأن.. في أوقات الأزمات عامة، ومصارعة الأعداء خاصة؛ حتى إن الرجل ليغلب العشرة من الرجال (إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ) [الأنفال 65].
وفي قضايا الفكر والرأي والالتزام قد ننظر للكمّ تارة، وقد ننظر للنوع تارة أخرى؛ فإذا كان الحق الذي نتبعه قطعياً - أي ليس متعلقاً بالاجتهاد ـ فإن الكم مهدور حينئذ، وهذا معنى قول بعض السلف: الجماعة أن تكون على الحق، ولو كنت وحدك، وحين يكون الحق اجتهادياً فإن الكمّ حينئذ معتبر، ومن هنا نشأت أهمية كلمة الجمهور عند الفقهاء وغيرهم.
إن أمتنا اليوم لا تعاني من نقص في الكمّ على أي صعيد من الصعد، لكنها تعاني من نقص شديد في النوع ؛ فنحن اليوم ربع العالم، وأراضينا واسعة شاسعة، وخيراتنا كثيرة وفيرة، لكنناـ والحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح ـ إلى جانب هذا في حالة معيشية مأساوية؛ أعني العالم الإسلامي بأكمله على أكثر الأصعدة، فأكثر بلدان العالم الإسلامي مصنفة مع البلدان الفقيرة، وكثير من شعوبنا يعيش تحت مستوى الفقر! وأعلى نسبة للأمية موجودة عندنا! أما الوزن الدولي فنحن جميعاً على الهامش موزَّعون ما بين شرق أوسط وأقصى وأدنى، أي أننا نُصنَّف باستمرار تبعاً لموقعنا في المركز!!
إن وضعنا الحالي قد جاءت به الإنذارات في نصوص كثيرة منها: قول رسول الله[: "يوشكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعَى عليكم كما تَدَاعَى الأَكَلةُ إلى قَصْعَتِها، فقال قائل: من قِلَّة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنَّكم غُثاء كَغُثَاءِ السَّيْلِ، ولَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صدور عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ في قُلُوبكم الوَهْنَ، قيل: وما الوْهنُ يا رسول الله؟ قال: حُبُّ الدُّنيا، وكراهيَةُ الموتِ" أخرجه أبو داود. وللغثاء سمتان أساسيتان: خفة الوزن، وعدم الترابط، ويترتب عليهما نتيجة مخيفة؛ هي فقد الاتجاه الحر، فالغثاء يساق دائماً إلى حيث يريد، وإلى حيث لا يريد؛ وفي موازين عديدة يُعدّ فقد الاتجاه فقداًللوجود ذاته!!
• كيف نحول الكمّ إلى نوع؟
نحن في حركتنا اليومية يجب أن نقوم باستمرار بتحويل الكمّ إلى نوع، فالكمّ عبء ثقيل وعقبة كأداء في طريق نجاحنا؛ فالأمي والجائع والمريض والمنحرف والفوضوي والكسول؛ كل أولئك يشدون الأمة بعنف نحو الوراء، ويقفون في وجهها وهي تخطو نحو الخلاص، هؤلاء غثاء كغثاء السيل، وهم نقاط ضعف في جسم الأمة ونقاط ارتكاز ورؤوس جسور للمتربصين بها الدوائر!!
• ويكون السؤال حينئذ: كيف نحد من نسبة هؤلاء لتكون قريبة من الطبيعية؟ هناك محاور أربعة أحسبها منطلقات مهمة في هذه السبيل:
1- أن نشيع في الأمة روح التوحد على الأصول والحق القطعي؛ أي الثوابت، وأن نشيع إلى جانب ذلك روح التسامح في الفروع والحق الاجتهادي أي المتغيرات، ونضرب للناس الأمثلة العملية التي تنير لهم السبيل.
2- أن نوسع في تربيتنا وحياتنا اليومية مفهومات العبادة لتشمل كل مجالات النفع العام، كالأخذ بيد أولئك الذين قعدت بهم ظروفهم وإمكاناتهم عن أن يعيشوا حياة كريمة طبيعية كما ورد في بعض الأحاديث:
(السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ)، وذلك بغية التخفيف من المعاناة التي يكابدها كثيرون من أفراد الأمة.
3- رعاية النابهين وإعطاؤهم ما يستحقونه من الاهتمام والمتابعة والبذل، والنابهون هم أولئك الذين آتاهم الله سبحانه وتعالى من الإمكانات ما جعلهم محاور يدور في فلكهم الآخرون، والنابه قد يكون طالباً عبقرياً، وقد يكون وجيهاً يأتمر بأمره كثيرون، وقد يكون واحداً من ذوي رؤوس الأموال الطائلة، وقد يكون ويكون... وهذا من باب إنزال الناس منازلهم.
4- إقامة المؤسسات الكبرى على مختلف الصعد، وتلك المؤسسات تؤصِّل فينا روح فريق العمل، كما توفر الأُطر الإدارية والفنية والعملية لأولئك الذين يملكون روح الإخلاص والعطاء.
إن المؤسسات تمثل مهمة المحرك للسفينة تارة، ومهمة المراسي تارة أخرى، أي: تؤمن حركة راشدة متزنة.
وإذا ما فعلنا ذلك أو بعضه نكون قد ساعدنا الأمة في الخروج من نفق الغثائية الكمّية المظلم، ودفعناها نحو امتلاك أهلية قيادة العالم وهدايته. وعلى الله قصد السبيل.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
Nous vous remercions du fond de nos cœurs pour vos conférences et vos messages au monde musulman afin qu'il se réveille de ce profond sommeil.