الذئب الواعظ بين الغنم
كتب بواسطة الشيخ عبد الله العمر
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1868 مشاهدة
من إعجاز كتاب الله تعالى، أنه يضرب الأمثال التي تصلح ليس لمن نزلت الآية بحقه وحده في زمان ومكان مُعينين، بل هي صالحة لأن تستعمل لكل من يأت على منواله وسلك منهجه وكان صورة مُصغرة عن أعماله..
وقد نزلت آيات كثيرة في بعض الطغاة الظلمة الذين استَّبدوا وكانوا عتاة مجرمين ولكن القرآن لم يُسَّم واحداً منهم بالإسم لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه؛ فتحدث القرآن عن النمرود ومحاجاته لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، من دون تسميته في آيات من سورة البقرة، وذكر القرآن بعضاً من الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبا جهل والوليد بن المغيرة، وأبيّ ابن خلف بما فعلوه واقترفوه من دون مسُمَّاهم.
ولم يذكر القرآن الكريم بالحديث عن الطغاة في الأرض الذين أفسدوا بملكهم ومالهم إلا ثلاثة: إثنين في التاريخ القديم وهما فرعون وقارون، وفي عهد النبوة: أبا لهب.. لعنهم الله..
ولما كنت أردت أن أقدم أنموذجاً كاملاً لكل مظاهر الفساد في الحاكم لم أجد من يناسبه المثال إلا فرعون حيث أن كتاب الله تعالى، أفرد في الحديث عنه جملاً ومُفصَّلاً في عشرات الآيات، لكون أخباره تفيد في معناها ومغزاها الماضي والحاضر والمستقبل.
وقد وجدتُ أن أسُمَّيه (بالذئب الواعظ بين الغنم) حيث أنه لا يعقل أن يجتمع الذئب والغنم، فالعداوة بينهما بالغريزة والفطرة، لا لشيء إلا لإن الذئب لا يهَّمُه من الأغنام إلا افتراسهم، ونشب أظفاره في أغوار جسدهم نهشاً وتقطيعاً.
ولما كان قوم فرعون في صورة تناسب الأغنام الخاضعة الطائعة، التي يعجبها من يضحك عليها، ويستخف فيها، ويعدها غروراً حتى يأت الوقت الملائم ليقضي عليها، حيث أنه يستعملها ليواجه بها خصومه وأعدائه حتى إذا ما نال مُراده غدر وفتك بها فتكا.. ولنا دليل قرآني في ذلك عن قوم فرعون في قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } (سورة الزخرف:54) ).
وقد وعظ هذا الذئب (الشفوق الأمين) قومه البلهاء وقال مقاله التي لا يقولها ذئب واحد لأغنام واحدة بل هي موعظة ذئاب تأت في أزمان وأماكن مختلفة وتحمل في طياتها ذات الغاية والمُراد، لقد قال تعالى عن فرعون الواعظ لقومه خلاصة كل ما يمكن أن يقوله طغاة الأرض على مر العصور والدهور.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (سورة غافر:26)
وأي دين هذا الذي يريد استبداله لهم، إنه دين عبادة الصنم الطاغوت الذي يقول للناس جميعاً من حوله.. {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} (سورة غافر: 29).
دين لا يرى صاحبه الصلاح إلا في بقاءه سيفاً مسلَّطاً على أعناق قومه لا ترتفع لهم هامة ولا تنحني لهم قامه إلا له ولا يسبحون إلا بحمده وشكره، ولا يذوقون المنَّ والسلوى إلا على فُتات موائده.
قال لهم فرعون {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ} (سورة غافر: ٢٦)، وهل من من أحد سيمنعه من نيل هذا (الشرف) واستحقاق تلك (المنزلة)؟ لقد جاء موسى عليه الصلاة والسلام بدعوة تزيح عن فرعون هذا كرسيه الفولاذي الذي يجلس ويتسمر على مقعده ما دام فيه نفس ونبض يرعد ويزيد ويقتل ويسحل ولا رادع له ولا مانع.
ولذا لا بد من أن تتركوني أيها القوم أقوم بدور المنقذ لكم من هذا (الفاسد) الذي يريد تبديل دينكم دين الأمن والرجاء والطمأنينة والبحبوحة والرغد في العيش.. وان كان كل ذلك بالنسبة لكم أيها الناس وهما فيكفي أن يكون فرعون وحاشيته ووزاءه وسدنة قصره يتمتعون بحياة وفيرة كريمة، والناس من حولهم يحسبون أنفسهم يأكلون إن أكل أسيادهم وإن جاعوا هم، ويلبسون إن لبس اسيادهم وإن تعرّوا هم ، إنها لغة الطغاة ولشعوبهم في كل عصر.. إن كنا نحن بخير فأنتم أيها الناس بخير.
لا يهَّم لكم ولأبناءكم علماً ولا عملاً المهم أن يتعلم ويعمل أبناؤنا فإن بلغوا المراتب العالية فقد بلغتم معهم ما بلغوا، وإن كنتم في مقر الوادي السحيق مستقرون.
لقد حذّر فرعون الناس من ترك موسى عليه السلام يبدل دينهم لأنه في تبديله لهذا الدين سوف تهوى عروش وتسقط رؤوس، سوف تنكشف خبايا وتظهر خفايا.. فهو يريد منهم أن ينظروا بعينيه ويسمعوا بأذنيه ويتكلموا بلسانه.
هذه هي مهمتهم ولا حياة لهم إلا أن يكونوا ظلاله وصدى مسموعاً لكلامه.
لقد قال فرعون مقالته ورحل وجاء من بعده وسيأت إلى يوم القيامة كثير من صغار الفراعنة الذين قالوا وسيقولون مقالته وإن بأسلوب جديد ولكن نفس الغاية التي تحكم معناه، وهو: ألا يقبل الناس أن يأت أحد يريد تحكم شريعة الله في الأرض واعلاء كلمة الله. ويطلبون من شعوبهم أن ينعتوه بأنه عميل مستورد ورجعي متمرد، يريد أن يعيدكم إلى مجاهل الظلام وبيوت الخيام، لا تقبلوا بأقل من قتله وشنقه على رؤوس الأشهاد فهو يريد الفساد، إفساد دينكم المتطور المواكب للتقدم والعصرنة والحداثة، والتحرر والمساواة بين الجنسين إلى دين الرجعنة والبداوة والتزمت والقيود.
يريد إفساد دينكم الذي يبيح الخمور وكشف الصدور، وكل فن (راق) يجعل الخيانة والتهتك والمجون أمراً معقولاً ومقبولاً إلى دين يسمى شرائكم (الروحي) رجس من عمل الشيطان، ويأمر بستر النساء للرؤوس والنحور والبقاء في الدور..
وأقول بعد كل ما قلناه هنا.. هل من جامع للقول نختم به مقالنا؟!...
لقد وجدت أفضل عبارات تلخص حديثنا وتجمع شتات كلامه على لسان شهيد الإسلام سيد قطب رحمه الله.. والذي جاء بدعوة دين فيه ظلال دعوة موسى عليه السلام لفرعون عصره.
يقول قطب رحمه الله في الظلال: (هل هناك أظرف من أن يقول فرعون الضال عن موسى تلك المقالة؟!، أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟!، أليست هي كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟!، أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الشبهات في وجه الإيمان الهادئ؟!
إنه منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان) .
والقصة قديمة تعرض بين الحين والحين.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!