باحث أكاديمي | فلسطين
النموذج الطغياني في الحالة الفرعونية
يمنح القرآنُ الكريم شخصيةَ فرعون حضورًا مركزيًّا لافتًا، لا يَظهر في التكرار الواضح والعرض المتنوع لقصص الشخصية فحسب، وإنما أيضًا في الكثافة الهائلة التي تكتنزها الشخصية، بأبعاد حضورها المتعددة، من البعد الذاتي، إلى بعد الملأ، إلى بعد الجمهور بمستوياته؛ الجمهور الفرعوني، وجمهور بني إسرائيل.
في الأساس، تقوم القصة على طرفين نقيضين، إذ تُسرف الذات الفرعونية في التعالي على البشر إلى حدِّ قتل الأبناء واستحياء النِّساء، وادِّعاء الربوبيَّة والألوهيَّة؛ (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، وربط ظواهر الطبيعة بما تتيحه من مجالات للسعي وطلب الرزق بذاته ووجوده (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، وكأنَّ القرآن يبيِّن بهذا النموذج - الباذخ في الطغيان - أنماطَ الطغيان الواقعة كلَّها في حركة التاريخ، فما من نمط طغيانيٍّ إلَّا وله أصل حاضر في القصة الفرعونية الثريَّة.
على الطرف النقيض، تأتي مجموعة بني إسرائيل المُستعبَدة، والواقع عليها طغيان فرعون، كنموذج مسرفٍ بدوره في الخضوع واستمراء الذلِّ، ثم كنموذج تتكثَّف فيه الأمراض البشرية الواقعة كلُّها في حركة التاريخ، والتي يتولَّد جزء كبير منها من اعتياد العبودية والتلذُّذ بها. ويبدو أنَّ الوعي العبوديَّ التجسيديَّ لبني إسرائيل قد تطوَّر في الأصل عن عبوديتهم لفرعون، ومن ثمَّ وبالرغم من الآيات الكبرى التي صنعها الله جلَّ وعلا أمام أبصارهم وفي أسماعهم؛ فإنَّهم ما إن تجاوزوا بعضًا من تلك الآيات حتى طلبوا أن يعبدوا إلهًا محسوسًا، وما إن غاب عنهم نبيهم حتى صنعوا عجلاً وعبدوه، ثم إنَّهم أشربوا في قلوبهم العجل.
بَيْدَ أنَّ الانتفاش المتضخِّم في الشخصية الفرعونية، قد يحول دون رؤية الأبعاد الطغيانية الأخرى التي تنفتح عليها القصّة، ومن ذلك أنَّ فرعون _ رغم مركزيَّته الشديدة، ودوره الخطير _ داخل هذا النظام؛ عنصر من بين جملة عناصر، قد يكون هو أهمّها، ولكنه ليس العنصر الوحيد.
ومن هنا فإنَّ سورة القصص التي افتتحت قصة الطغيان الفرعوني بصور غاية في الدلالة، إنْ على العلُّو الفرعوني، أو على بطشه الرهيب؛ قد كرَّرت التركيز على الجانب المؤسسي والتنظيمي في النموذج الطغياني الفرعوني (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)، (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ)، فلم تميِّز الآية هنا في الهواجس أو في الخطأ بين فرعون والأركان الأخرى المذكورة مما يشكِّل النموذج الطغياني، وقد تجلَّى الأثر المؤسسي للطغيان في محاورة فرعون لقومه حينما قال لهم: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)، فإنَّ فرعون هنا يطلب إطلاق يده لقتل موسى، ثم إنَّه يحاول إقناع شركائه في النظام؛ بحجج ليست بعيدة عن تلك التي تسوِّقها اليوم المؤسسة الطغيانية المعاصرة.
وإذا كان هذا حال فرعون الذي بلغ الذروة في التفرُّد وتمثيل الطغيان، فكيف بالطغيان الحديث الذي يقوم في أساسه على المأسَسَة، حتى وإن اتخذ طابعًا فرديًّا مضلِّلًا؛ كما هو الحال في بلاد العرب؟!
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة