أستاذ في كلية أصول الدين والدعوة جامعة الأزهر
'التغافُل' من أخلاق الكرام
كتب بواسطة إسماعيل علي محمد
التاريخ:
فى : المقالات العامة
4250 مشاهدة
خلق الله الناس، وجعلهم مفطورين على الاجتماع والمخالطة، فكان الإنسان كما قيل مدنياً بطبعه.
وقد اقتضت حكمة الخالق -سبحانه- أنْ يحتاج الناس إلى بعضهم في تحقيق أسباب العيش في هذه الدنيا، فلا غنى للإنسان عن معاشرة بني جنسه.
وتبدأ دائرة المعايشة بين الناس بالأسرة، ثم تتسع الدوائر لتشمل محيط الجوار والعمل والصداقة وغيرها.
وهذه المعاشرة تكون بمثابة المرآة التي تعكس طباعَ البشَر وأخلاقَهم في تعاملهم فيما بينهم.
وحيث إنّ الناس ليسوا ملائكة، فسوف يقع بالضرورة من التصرفات والأخطاء ما قد يُعكّر صفو العلاقات بينهم في كافة دوائر المعايشة، مِن أسرة وصداقة وجوار ونحوها؛ بل قد يؤدِّي إلى التشاحن والتباغض والتقاطع.
والواقع أنّ الحياةَ لا تستقيم ولا تهنأ بكثرة اللوم، وتكرار المؤاخذة على الخطأ.
لذلك كان لا غنى للناس عنْ خُلُق رائع، ومبدأ حكيم، أجمعَ العقلاءُ على ضرورته في التعامل بين الناس بعضهم البعض، وخاصة في محيط الأسرة والصداقة وذوي القربى؛ كي تسير الحياةُ في هدوء ووئام، ألا وهو "التغافل".
والتغافل يُقصَد به: غضّ الطرف عن بعض أخطاء الآخرين، وتجاهل ذِكرِ بعضِ المساوئ، على سبيل الترفُّق بالمُخطئ، وعدِم التسبُّب في مزيدٍ مِن إحراجِه وتخجيلِه، كي لا تضعُفَ ثقتُه بنفسه، أو يتسللَ إليه شعورٌ بالإحباط، وتجنباً لإصابة العلاقات بين الناس بالتصدّع أو الوهْن.
وهذا منهجٌ تربويّ ودعويّ واجتماعيّ له أثرٌ طيب في النفْس، ويُحتاج إليه في كثير من الأحوال والمناسبات، كما أنّه مِن مكارِمِ الأخلاق.
قال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام.
وقال أبو تمام:
ليس الغبيّ بسيّد في قومه ** لكنّ سيّد قومِه المتغابي
وقد كان التغافُلُ عنْ بعضِ الزلات، وترْكُ الاستقصاءِ عند العتاب والتقويمِ مِن هَدْي النبيّ صلى الله عليه وسلم في التربية والإصلاح.
فقد حدَث أنّه -صلى الله عليه وسلم- أَسَرَّ إلى زوجته "حفصة" -رضي الله عنها- خبراً واستكتمها إِياه، لكنّها أخبرت بذلك السرِّ "عائشةَ" -رضي الله عنها- وأفْشتْه لها، وأَطْلع الله نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- على إفشائها للسرِّ، فما كان من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إلا أنْ أعلمَها ببعض الحديث الذي أَفْشتْه معاتباً لها، وأمْسَك عن إخبارها ببقية ما حدَّثَت به "عائشة".
قال الله تعالى: "وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ" (سورة التحريم: 3).
قال المفسِّرون: ولم يخبرها النبيّ -صلى الله عليه وسلم- بجميع ما حصل منها تكرُّماً منه أن يستقصيَ في العتاب، وحياءً وحُسنَ عِشرة، فإِنّ مِن عادة الفضلاء التغافلَ عن الزلات، والتقصيرَ في اللوم والعتاب، قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط.
وقال بشارُ بن بُرد:
إذَا كُنْتَ فِي كُلِّ الأُمُورِ مُعَاتِباً ** خَلِيلَكَ لَمْ تَلْقَ الذَّي لاَ تُعَاتِبُهُ
فَعِشْ وَاحِداً أَوْ صِلْ أخاكَ فإنّهُ ** مُقَارِفُ ذَنْبٍ مَرّةً وَمُجَانِبُهْ
إذَا أنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَاراً علَى القَذَى ** ظَمِئْتَ وأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشارِبُهْ
يعني: إذا كنتَ تلوم صديقَك في كلِّ تصرفاته، فاعلم بأنك لا يمكن أن تجد شخصاً معصوماً من التقصير، بحيث لا تكون لك عليه أيةُ ملاحظة تدعو للوم والعتاب.
واعلم بأنّ كلّ الناس عرضة للتقصير، فإنْ تمسّكْتَ بعتاب الأصحاب على الدوام فعِش وحيداً بدون صاحب، أو تَحَلَّ بالسماحة معهم، ووطِّن نفسَك على أنهم بشر يخطئون حيناً، ويجتنبون الخطأ حيناً آخر.
كما أنّ عليك أن توطِّن نفسك على تقبل وتحمّل شربِ الماء إذا كنت مضطراً للشرب ولا يوجد إلا ماء فيه بعض الشوائب، وإلا فيلحقك العطش، فكل أحدٍ عُرضةٌ لأن يُبتلَى بما يعكِّر صفوَ الماء الذي يشربه، بل من الصعب أن يضمن الناس صفاءَ ما يشربون أبد الدهر.
وما أجملَ أنْ يصاحِبَ "التغافلَ" عفوٌ وتسامحٌ، فتزدادَ الحياةُ هناءةً وسعادةً، وأهمُّ مِن هذا ينال الناسُ رضا الله.
وصدق الله القائل: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (سورة آل عمران: 133 134).
المصدر : هافينغتون بوست
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة