متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
تربية أبنائنا في الغرب تحديات وحلول
كتب بواسطة نجيبة بلحاج ونيسي
التاريخ:
فى : زينة الحياة
5577 مشاهدة
من أكبر المشاكل الّتي تواجه الأسرة المسلمة التي تعيش في أوروبا وفي فرنسا بالذَّات؛ مشكلة "الجيل الثَّاني" ومَن يأتي من بعده. فالطِّفل يولد هناك ويتربَّى منذ نعومة أظافره، في المحاضن عند غياب أبويه في أعمالهما الاضطراريَّة لاكتساب ضرورات العيش، أو في المدرسة الرَّسميَّة منذ سنِّ الثَّالثة إلى الثَّامنة عشرة على الأقلّ. هذا الطِّفل ينشأ بعيداً عن مفاهيم دينه، منبتَّ الهويَّة، مهما بذلت أسرته من جهدٍ وحاولت أن تجعله يحتفظ بلغته العربيَّة. فما السَّبيل إلى تنشئة شخصيَّات متوازنة تتمثَّل فيها الصُّورة المرجوَّة إسلاميّاً والمندمجة في مجتمعها اندماجاً بنَّاءً؟
• التَّحدِّيات:
يعيش أبناؤنا في مجتمعات تتَّسم بالتَّغيُّر السَّريع في مختلف أوجه الحياة، فينعكس هذا على سلوكهم، ويفرز اهتزازاً في معايير القيم، وصراعاً بين القديم والحديث. والطِّفل بطبيعته يحبُّ أن يكون كغيره من الأطفال، فلضعف احتماله وعدم نضجه يكون أكثر تأثُّراً بمحيطه..
ثمَّ إنَّ مفهوم العلم اليوم يتَّسع لِمعانٍ مختلفةٍ، والتَّضارب في الأحكام العلميَّة ينتج جهلاً وحيرة، ويُنشئ جيلاً متسائلاً عن كلِّ شيء ومنكراً لكلِّ شيء. والمجتمعات اليوم تكاد تكون فاقدة للثَّقافة الأصيلة، تجد الثَّقافة الواحدة مليئة بأجزاء مختلفة من ثقافات متفرِّقة، فكثيراً ما يقرُّ المسلم بقيَم دينه؛ بينما ثقافته تعبِّر عن ثقافة الآخرين.. ثمَّ إنَّ التَّعليم الحديث اعتنى بتربية العقل وتثقيف اللِّسان، ولم يسعَ إلى تغذية القلب وتهذيب العاطفة وتقويم الأخلاق. وقدَّم الغرب عبر وسائل الإعلام وغيرها صورة منفِّرة للدِّين، وفصل بينه وبين الحضارة، وشوَّه مفهوم الحرِّيَّة؛ فلخَّصها في الانطلاق الكامل نحو الشَّهوات، وقاوم الفضيلة باسم الحرِّية. فأفقد الرُّؤية الواضحة للمفاهيم الإسلاميَّة وأربك التَّربية القويمة.. يسمع الشَّابُّ في بيته حديثاً عن الفضيلة، ويعيش نقيضها في الواقع المحيط به، فتنعدم ثقته بالمجتمع، ويُعرض عن النَّصيحة ويتَّبع ما تحدِّثه به نفسه، ويضطرب سلوكه. وكثيراً ما يصل به الحال إلى التَّعقُّد والانفلات الغريزيِّ المغذَّى بما يراه من مغريات وتهييجٍ للغرائز الجنسيَّة.. أو يتَّخذ مذهباً فقط للتَّقرُّب أو التَّجمُّل أمام أصدقائه، وهذا يزيد من حالة الضَّياع في نفسه، ويُحرَم السَّكينة التي يغدقها الوضوح واليقين في الرُّؤية.. وصنف آخر من الشَّباب مستقيم، ويعيش داخل أسرته تعارضاً مع أبويه، فتَراه حائراً بين التَّعرُّض إلى غضب الله والتَّعرُّض لسخط والديه.
ومن المشكلات أيضاً الخلاف بين الوالدين وحالات الطَّلاق الَّتي تدفع الأبناء إلى البحث عن الدِّفء خارج البيت.
وتعيش فئة أخرى من الجيل الثَّاني الفقر؛ فلا تتوفَّر للفرد حاجاته الأساسيَّة في حين أنَّ أترابه يعيشون في وضع مريح، وهو لا يستطيع مجاراتهم، فيستهين بكلِّ شيء، وتفقد حياته معنى الهدف، وينزوي ثمَّ تنتابه الكآبة والآلام النَّفسيَّة المختلفة..
أضف إلى كلِّ هذا أنَّ السُّلطة الأبويَّة في هذه البلاد ضعيفة وغير مسندة بالقانون.. قد يُسحَب الطِّفل من أسرته ليُزجَّ به في مأوىً اجتماعيٍّ لمجرَّد تقوُّلٍ ضدَّ والديه، ودون رويَّة، بحجَّة حمايته، فكيف يُدرأ ضررٌ بضررٍ أكبر منه! وأيُّ ضرر أكبر وأخطر من إبعاد طفل عن أسرته!.. التَّربية الرَّشيدة تتطلَّب تناغم سُلطة الأسرة مع السُّلطة الرَّسميَّة.
• الحلول:
هذه الأوضاع المليئة بالتَّناقضات تحتاج إلى وسائل تربويَّة ذكيَّة تمكِّن من تقليص هذه المتناقضات في حسِّ الأجيال النَّاشئة، فيتابعون دراستهم الرَّسميَّة دون أن تثقل عليهم علوم دينهم ولغتهم الَّتي يتلقَّونها خارج مدرستهم.
تتمُّ هذه المتابعة أساساً لغرس حُبِّ الحقيقة فيهم، حبّ الله، حبّ الإنسانيَّة، يتعلَّمون منها أنَّ العلاقات بين الأفراد تُبنى على الحبِّ والتَّكافل في المجتمع، لا على الحقد والعقاب..
ويدركون بتوجيهاتها كيف يقرؤون.. يتعلَّمون عبرها فنَّ اختيار الموضوع.. فنَّ قراءة الكتاب.. فنَّ اختيار الصَّديق ذي الأخلاق الفاضلة..
وتتمثَّل هذه الرِّعاية في إيجاد نوادٍ تربويَّة تكون "مجتمعاً" بديلاً وتقدِّم تعليماً خاصّاً، يُجمع الفرد برفقة طيِّبة، ويتمُّ على أيد أمينة متميِّزة وموصولة القلب بالله، يضاف إلى ما يتلقَّاه في مدرسته الرَّسميَّة ورعاية أسرته، لتثبت في قلبه وعقله منذ السِّنِّ المبكِّرة حقائق العقيدة الصَّحيحة، ومفاهيم الإسلام وخُلقه الرَّفيع وأسلوب تناوله للفكر والحياة، فيقدر على مقاومة الإغراء المحيط به، ويعرف كيف يتعامل مع أمراض المجتمع، وكيف يحفظ نفسه من خطر الأحاديث المتناقضة، ويتعاون مع الأصدقاء الطَّيِّبين التَّعاونَ البنَّاء؛ فيوفِّرون لبعضهم حاجاتهم النَّفسيَّة والاجتماعيَّة.. ويحرص المشرفون على هذه النَّوادي على متابعة الطِّفل في مدرسته النِّظاميَّة؛ لتمكينه من التَّفوُّق وتصحيح الأفكار الخاطئة الَّتي قد تصل إلى مسمعه، وتتمُّ التَّعبئة الرُّوحيَّة فيها فضلاً عن التَّرفيه، ويعايش المربِّي الطلَّاب عن قرب، فتنمو بينهم علاقة أبوَّة وصداقة تسهِّل الاستجابة إلى النُّصح.
وهكذا يكوِّن هذا الإشراف الإنسانيُّ الرَّاقي عناصرَ متوازنة بنَّاءة مُحبَّة لمجتمعها وساعية لنفعه، متعالية عن سلبيَّاته، ومعتزَّة بانتمائها الإسلاميِّ.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة