طالبة جامعية في كلية الطب | لبنان
في القلب دوماً
إلى أين تأخذني يا ولدي؟
-لقد أخبرتكِ يا حبيبتي مراراً بأنَّنا ذاهبون إلى المستشفى.
-أيعرف والدكَ بذلك؟ سيغضب إن لم تقلْ له...
هزَّ فؤادٌ رأسه بحسرة، فوالده قد تُوفِّي منذ زمن بعيد، وفضَّل الصَّمت على الإجابة...
كانت هذه الرِّحلة هي الرِّحلة الأطول في حياة فؤاد، شعر بأنَّ المكان الذي يقصده يفرُّ منه فراراً، وأنَّ الطريق إليه يتطاول كما يتطاول ظلُّ الشجرة قُبيل الغروب. أراد أن يعود أدراجه مراراً، ولكنَّه تذكَّر نظرات زوجته السَّاخطة، وهمسات أصدقائه كلَّما أصرَّت أمُّه أن تلقي التحيَّة عليهم عند زيارتهم له، وانزعاج أبنائه من كثرة حديثها وأسئلتها. اقترب فؤادٌ من مقصده وقد حسم أمره.
جلس في قاعة الانتظار ينتظر دَوره، وجلست أمُّه بجانبه لا تنبسُ بِبنت شَفة، وكأنَّها تدرك ما ينتظرها. أغلق عينيه لبرهة، فسمع الموظَّفة تُنادي رقمه، قام مرتبكاً، وبعد أن أجرى المعاملات اللازمة، قادته الممرضة إلى الغرفة التي ستقضي أمّه فيها ما بقي من عمرها. التفت وهمَّ بالخروج والهمُّ يعتصر قلبه. تسارعت خطاه بينما سمع أمَّه تعترض على منع الممرِّضة إيَّاها بلَحَاقه، ثم غطَّى أُذنيه بيديه وهرول إلى الخارج وهو لا يرى إلَّا غباشاً من خلال صفحةٍ دقيقةٍ من الدُّموع.
مضت الأيَّام كئيبةً في بادئ الأمر، فقد افتقد فؤاد وجود أمِّه في كلِّ زاويةٍ وسماع صوتها في كلِّ الأوقات، ثم اعتاد غيابها لاحقاً. كان يزورها باستمرارٍ في البداية، ثمَّ بدأت زياراته تشحُّ خصوصاً عندما أدرك بأنَّها لم تعد تتعرَّف عليه أو على إخوته، وأصبحت وكأنَّها حبيسة جسدٍ يتلاشى شيئاً فشيئاً.
في يومٍ من الأيَّام، وبينما كان عائداً من عمله تلقَّى اتِّصالاً،" نتأسَّف لإخباركَ بأن مريضتكم المقيمة عندنا قد توفِّيت ظهراً، نرجو حضوركم لتوقيع الوثائق اللَّازمة".
أحسَّ فؤاد بأنَّه انسلخ عن الدُّنيا في تلك اللَّحظة، وبينما جنحت سيَّارته بعيداً عن مسارها مرَّت أمامه كل الذكريات التي يختزنها في قلبه عن أمِّه، وتساوت في ناظريه الذكريات المحرجة مع الذكريات السعيدة، بات كل ما يذكره بأمِّه مقدَّساً. اصطدمت سيَّارته بحاجز الجسر وتخطَّته، فوجد نفسه معلَّقاً في الهواء، ورأى الأرض تقترب منه رويداً رويداً... أَبَتِ الذكريات أن تفارق عقله، وأبى الأسى أن يفارق قلبه حتَّى آخر لحظة قبل الاصطدام المحتَّم. وعندما كادت السيارة أن تلامس الأرض، أغلق فؤادٌ عينيه مترقِّباً ما سيأتي.
فتح فؤادٌ عينيه عندما نادت الموظَّفة رقمه قام مرتبكاً، ثم انحنى ليقبِّل يد أمِّه وسط ذهول الجميع. أمسك بيد أمِّه وقادها بحنانٍ إلى الخارج، عازماً ألَّا يعيدها إلى ذاك المكان مجدداً حتَّى لو نسيت أمُّه من يكون، فهوَ لن ينسى من تكون، هي في القلب دوماً... هي أمُّه الحنون...
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة