كاتبة ومحررة في مجلة إشراقات
السائق.. والسيجار.. في شهر رمضان
مجّ سائق سيارة الأجرة سيجارته بقوة ونفث دخانها باتجاه المرأة الواقفة على ناصية الشارع المقابل ثم هتف بها قائلاً: إلى أين؟
أجابت المرأة باستحياء: «شارع حمد لو سمحت».
لم يكلّف نفسه عناء الإجابة واكتفى بالإشارة لها بيده بالصعود، لم يحرّك ساكناً من مقعده بينما المرأة تضع أكياس المشتريات الكثيرة في صندوق السيارة، وما إن أصبحت داخلها حتى ابتدرت السائق بتحية ممزوجة بسُعال خفيف بينما يدها تحاول إبعاد الدخان المنبعث من السيجارة... نظرات استنكار لم تستطع إخفاءها ولكنّ لسانها عجز عن إبداء النصيحة، فاكتفت بأضعف الإيمان: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم... المجاهرة بالمعصية وفي شهر رمضان الكريم!!... أستغفر الله العظيم وأتوب إليه».
- دقائق قليلة واقتربت السيارة من المكان الذي تقصده المرأة؛ فصاح السائق: «ها قد وصلنا».
سألت المرأة السائق بصوت حَييّ: هل تستطيع مساعدتي في نقل الأغراض إلى داخل المكان لو تكرّمت؟
لم يُجب ولكن علامات الامتعاض كانت بادية بوضوح على وجهه، نزل من السيارة صافقاً بابها بقوة ثم وضع السيجارة بين شفتيه، وبدأ بنقل الأغراض إلى داخل المكان الذي أشارت إليه... أطلق السائق لبصره العنان سامحاً له باختلاس النظر بحرية... عيناه أخذتا تُلاحقان الفتيات الصغيرات اللاتي يركضن في أرجاء المكان كالفراشات، كما طارد سمعه أصوات جمهرة من الأخوات المحجّبات والمنقبات اللاتي يضعن لمساتهن الأخيرة على الزينة وتجهيز طعام الإفطار في المطبخ استعداداً لحفل الإفطار الذي يُنظّمنه في كل عام.
«أشكرك جزيل الشكر أخي».
- التفت إليها وشعورٌ بالخجل يعتريه بعد أن ضبطته يتلصلص.. حشريته دفعته للسؤال: «من هؤلاء؟».
أجابت المرأة ونشوة من الفرح والاعتزاز تغمرها: «هؤلاء مجموعة من اليتيمات ترعاهُن جمعية الاتحاد الإسلامي، والأغراض التي ساعدتني في نقلها هي من أجل الإفطار الذي نُعدّه لهن».
- دهشة خفيفة أطلّت من عينيه؛ فاستفسر قائلاً: «وهل هنّ صائمات؟».
أكّدت المرأة: «طبعاً، الكثيرات منهن صائمات».
- «ولكنهن صغيرات السن ومعظمهن لم يَصِلن بعد إلى سن التكليف!».
رفعت المرأة حاجبيها استغراباً واكتفت بتكرار المقطع الأخير من كلامه بهدوء: «لم يصلن بعد إلى سن التكليف؟!».
- فَهِم المغزى من التكرار؛ فهو قد وصل إلى سن التكليف منذ أمَد بعيد جداً ومع ذلك لم يَصُم في حياته إلا أياماً معدودات رغم أنّه ليس من أهل الأعذار!
أفاق من شروده على صوت المرأة وهي تقول له: «جزاك الله خيراً أخي».
- حدّق بالمال الذي تمسكه بيدها لبرهة، ثم قال لها: «لا أريد منكِ شيئاً... فقط دعوة صالحة»!!!
قاومت المرأة الأيدي الصغيرة التي أخذت تجُرّها إلى الداخل وبقيت واقفة ترْقب حركات الرجل وسكناته... شاهدته يرمي السيجارة أرضاً... ثمّ داسها بقوة... بعدها رفع بصره إلى السماء وتمتم بكلمات قليلة لم تصل إلى مسامعها ثم ركب سيارته وانطلق بعيداًً...
استسلمت المرأة أخيراً لنداءات اليتيمات الصغيرات فدخلت بعد أن أغلقت الباب خلفها ولسانها لا ينفكّ يردِّد: «اللهم ردّه إليك ردّاً جميلاً».
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة