أولادنا بين الهواية والموهبة
كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن الموهوبين والمبدعين، وكيفية إثراء المناهج التربويَّة لتتناسب مع خطَّة تنمية التفكير عند الطلاب، ووُضعت الخطط والبرامج التربوية، وتصدَّرت بعض المصطلحات الرنَّانة التي تجذب الأهل والمدرسة بكلِّ ما فيها من معلِّمين ومنسِّقين ومرشدين، وغفل الجميع عن هؤلاء الطلاب، هل هم راضون عن هذه العمليَّة من أوَّلها إلى آخرها أم لا؟ لقد أصبح الأمر شبيهاً بالروبوت؛ نبرمجه كيفما أردنا، نضع له المنتجات ونزوِّده بما يلزم، وهكذا الطلاب، نضع لهم المناهج والخطط وننتظر منهم أن يكونوا روبوتات طيِّعين لا حول لهم ولا قوة.
إنَّ ما شدَّني لهذا الحديث هو إحساسي بهؤلاء الذين نسمِّيهم أولادنا، لقد اختفت معالم الفرح من وجوههم، وإني لأرى بأمِّ عيني شعلات الأمل التي تنطفئ شيئاً فشيئاً في أروقة المدارس وفي زوايا البيوت، وصرتُ أسمع زفرات الملل والنُّفور من كلِّ ما نسميه تعليماً وتدريساً ناشطاً كان أم تقليدياً. وبمعنى آخر: أولادنا لا يشعرون بالسعادة والرضى وهم ينفِّذون أوامرنا وخططنا، وعندما حاولنا إيجاد تفسيرات لهذه الظواهر الخطيرة تبيَّن لنا _ نحن كتربويين _ أنَّ السبب هو أننا خلطنا ما بين مصطلَحَين خطيرَين هما الهواية والموهبة. أو ربما دمجنا بينهما وجعلنا الموهبة تأخذ الحيِّز الأوفر من اهتمامنا.
ولكي نُعيد المياه إلى مجاريها لا بدَّ من إعادة كلِّ مصطلح إلى مكانه الطبيعي ، فالهواية نضعها على خريطة القلب وما يهواه؛ بغض النظر عن قدرة الطالب أو عدم قدرته، والموهبة نضعها على خريطة العقل والإدراكات؛ بدون أن نعطي للقلب الأهمية.
إنَّ الطالب الذي يحبُّ سماع الموسيقى لا يُشترط أن يتقن العزف، والذي يحبُّ مشاهدة مباريات كرة القدم ليس مهمّاً أن يكون لاعباً ماهراً، والذي يقرأ الروايات والقصص يمكن أن يكون غير قادر على التأليف والكتابة. هذه هي الهواية، هي ما يهواه أولادنا وما يحبُّونه ويستمتعون به دون أن يرتبط ذلك بقدراتهم على أداء مهارة ما.
هناك مَن يقتني الأشياء الأثرية ويجمع الطوابع والعملات القديمة من دون أيّ خبرة أو وعي بما يفعل، هذه الأشياء تعطيه الكثير من المشاعر الإيجابيَّة التي لا يمكننا أن نسميها أو أن نطلق عليها تعريفاً. هناك مَن يقتني الكتب ويشتري المئات منها دون أن يقرأها، فبمجرَّد أن يشتري الكتاب يشعر بالرضى والفرح، ووجود الكتب مرصوصة أمامه هو بمثابة امتلاك كنزٍ من الكنوز.
حارَ علماء النفس من هذه الرغبة الشديدة عند بعض الأشخاص والتي أُطلق عليها مصطلح الهواية، ولكن اتفق الجميع على أنَّ حرمان أولادنا من ممارسة هوايتهم لأمر خطير للغاية، وهو الأمر الذي يقف حاجزاً بينهم وبين سعادتهم الحقيقية التي تنسيهم متاعب الحياة ومشاكلها، والتي تكون كالبلسم لجراحهم.
تعالوا لنرى الأمرَ من زاوية أخرى. عندما تقتحم المدارس بيوتنا عبر الدراسة المكثَّفة والواجبات اليومية، وتجتاح المناهج الإثرائية كل فراغات حياة أولادنا تحت عناوين كثيرة منها التسمية الدارجة اليوم وهي الألعاب التربوية بكلِّ أشكالها وأنشطتها وأنواعها. ماذا يفعل أولادنا بهواياتهم التي لا تنطبق ولا تتوافق مع المسلسل اليومي الذي لا ينتهي؟ ناهيكم عن رفض الآباء الكثير الكثير من الهوايات والتي برأيهم ليست إلَّا وسيلة لإضاعة المال والوقت معاً. ولو أدرك المربُّون أهمية ممارسة الهوايات لأعطوها الحيز الأكبر من اهتمامهم. لا نستطيع أن نقيس كل أمور الحياة بالمكاسب المادية أو الخسارات، هناك مكاسب معنوية وعاطفية أثمن بكثير. فمثلاً عشَّاق القطط المنزلية يجدون راحة كبيرة في هوايتهم، ويستمدُّون من القطط الحنان والألفة والمحبة ويكتسبون مهارات عديدة من خلال اهتمامهم بها ومحبِّي المسؤولية، وعشَّاق الطيور وعشَّاق النباتات المنزلية، ومحبِّي الخيول، وتربية الحيوانات بكل أشكالها، هم مستعدون أن يقضوا
36 / 41
كل أوقات الفراغ في ممارسة هذه الهوايات دون كَلل أو مَلل. ولا ننسى أيضاً التكاليف التي يمكن أن يتكبَّدوها من جراء هذه الهوايات.
• ودائماً نسأل أنفسنا، ما هو دورنا نحن كآباء وكمسؤولين تربويين؟
علينا ترك مساحة كافية لأولادنا لممارسة هواياتهم؛ مع التوجيه المناسب وصقل هذه الهوايات ومساعدتهم على ممارسة ما يحبونه من دون خسائر وأضرار. لا نتدخَّل بينهم وبين ما يحبونه، إنما فقط نكون بالقرب منهم راضين، نمدُّ لهم يد العون عندما يحتاجون، ونشاركهم همومهم وفرحتهم، لأنَّ للهوايات مسؤوليات ومصاريف وأعباء. وأهم ما في الأمر عدم الاستهزاء بمشاعرهم لأنه عادة ما تقترن الهواية ببعض المشاكل والأمور العاطفية.
ويبدو الأمر طريفاً للغاية عندما تضطر الأم لأخذ إجازة من عملها لمواكبة ولادة القطَّة التي تربِّيها ابنتها. أو أن تضطَّر العائلة لإعلان الحِداد والحزن على موت الأسماك التي كان يربِّيها طفلهم. إنَّ مشاركة أولادنا هموم هواياتهم سوف يقرِّبنا منهم، وهذا القرب سيكون له التأثير الإيجابي في مواقف حياتية أخرى.
• وماذا عن المدارس وكيف يجب أن تتعامل مع هوايات الطلاب؟
من واجبات المدرسة توجيه الطلاب وإرشادهم إلى هوايات مفيدة ومناسبة، لأنَّ الكثير من الطلاب لا يدركون ما يحبُّون ولا يستطيعون التعبير عن مكنونات قلوبهم؛ إمَّا لأسباب نفسيَّة أو لأسباب عائلية خاصة. ودَور المدرسة الكشف عمَّا يحبُّه الطالب ومساعدته على فهم ذاته وتهذيب مشاعره واختيار الهواية التي تناسبه عبر برامج تربوية صحيحة. ما ينقصنا في تربيتنا لأولادنا هو احترامنا لمشاعرهم وتقديرنا لأفكارهم مهما كانت غريبة؛ لتبقى البسمة على وجوههم والفرحة في قلوبهم.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة