غيّبه الموت ..وما غاب
في عام 1941م علت الزغاريد في بيت فلسطيني في بلدة " شفا عمرو", فرحاً بمولد طفل لم يكن الوحيد الذي ولد في تلك السنة، ولكنه كان الأبرز بين أقرانه فيما بعد، حمل أحمد محمد الصديق بين جوانحه نفْسَاً لا تقبل الضّيم, فضاق بالاحتلال, وآثر الهجرة بحثاً عن "منأى للكريم عن الأذى" فعبَر حدود لبنان وحطَّ رحاله بالدوحة؛ التي أطلَّ من خلال صُحفها وفعالياتها الثقافية على العالم الإسلامي بقصائده المؤثرة؛ التي لا تزال كلماتها تتردَّد صدىً في فضاءات الصحوة الإسلامية.
درس الشريعة الإسلامية في جامعة أم درمان بالسودان وحصل على الليسانس والماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة الأزهر.
حصل على الدبلوم العام في التربية بجامعة قطر. وبدأ بنشر قصائده في الصحف اليومية في فلسطين المحتلة أيام دراسته الإعدادية والثانوية قبل خروجه منها عام 1956م.
شارك بشعره في مهرجانات وطنية عديدة، ونشرت له مجلة الحق القطرية، ومجلة الشهاب اللبنانية، ومجلة البعث الإسلامي في الهند، ونشرَ رحمه الله لسنوات طويلة روائع قصائده في مجلة "منبر الداعيات" و "إشراقات" حالياً.
دخلت بعض قصائده ضمن المقررات في مناهج اللغة العربية بدولة قطر ودولة الإمارات، وفي المدارس الفلسطينية في لبنان. عمل في قطر مدرساً لمدة ثماني سنوات ثم انتقل للعمل بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية رئيساً لأحد أقسامها، وخطب الجمعة في الدوحة لأكثر من 20سنة.
كرَّس شعره وبيانه في خدمة الإسلام وقضية فلسطين وهموم الأمَّة، ودواوين شعره شاهدة على ذلك، منها: (نداء الحق)، و(جراح كلمات)، و(واحات وظلال)، و(قادمون مع الفجر)، و(أناشيد للصَّحوة الإسلامية)، و(يا سراييفو الحبيبة)، وغيرها..
وهو الذي أرسل رسالةً إلى صلاح الدِّين الأيوبي رحمه الله, قال فيها:
عفواً صلاح الدِّينِ..
ليلُ التيهِ يحملنا إليكَ..
على جناح الشوقِ..
تصفعنا أعاصير الهزيمهْ..
نغطُّ في أوهام غفلتنا العقيمهْ
بالأمسِ كنت هناك إذ دوَّى نداءُ القدسِ:
"و ا أقصاه"!!
والأخطارُ محدقةٌ وخِيمه..
ووقفت كالعملاق في وجه الرياح الهوجِ
تنسجُ من خيوط النور آفاقاً..
تؤجج نخوة الإيمانِ..
في أوجاع صحوتنا القويمه
عرفَته منابر جمعية الإصلاح في الإمارات والكويت والبحرين شاعراً ملهماً وحادياً للصحوة الإسلامية آنذاك.
قال فيه العلَّامة يوسف القرضاوي _ حفظه الله تعالى_: " هو شادي الأفراح و(ندبة) الأحزان، ولكنه استطاع أن يحوِّل الحزن من سكب الدموع، وإطلاق العويل، إلى ثورة على الباطل، ودعوة إلى الحق، يجتمع فيها الشتات، وتعلو راية الله، يحملها رجال مؤمنون، يعيدون من جديد "صلاح الدِّين" ويحيون ذكرى (حطين)".
30 / 40
توفي الشيخ الشاعر أحمد محمد الصدّيق يوم الأحد 14 أيار 2017م، في العاصمة القطرية الدوحة، عن عمر يناهز 76 عاماً.
نسأل الله العلي القدير أن يغفر له ويرحمه ويعفو عنه، ويجزيه خير الجزاء.
آثارة تشهد له..
بقلم: أ. عمر عبيد حسنة
أحمد الله أن عرفتَه وأنا في سنٍّ مبكرة، وقد اختزلت لي هذه المعرفة الكثير من التجارب، وطوت لي الكثير من الزمن، وجعلتني أميِّز من وقت مبكّر بين قِيم الدِّين المعصومة وبين صور التدين المغشوش، فما أراه من الفساد والإفساد والانتهازية، التي كانت تطال بعض رجال الدعوة والمشايخ لم يكن يُحدث لي رَدة فعل، بل يزيدني تمسكاً بهذا الدِّين، ويشعرني بالمهمة الكبرى التي تحتاجها عملية التصويب واكتشاف الخلل وبيانه.
إنّه أستاذي وشيخي ورفيق دربي الطويل، وابن بلدي «قطنا».. الدكتور محمد أديب صالح رحمه الله
• إخلاصه ومسؤوليته تجاه أمّته:
لقد كان أكبر مني عمراً، وأرفع قدراً، وأغزر علماً.. كان رجل عدل وعلم وحكمة، يصدق فيه قول النبي [: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ" (رواه البيهقي).
لم يمنعه كبر السنِّ ووطأة المرض من استشعار مسؤوليته تجاه أمَّته وما أصابها من الدواهي والمظالم، فبقي مرابطاً، منافحاً، مدافعاً حتى آخر رمقٍ من حياته..
استمر أستاذاً معلماً حتى غيَّبه المرض، أو كاد.. وكانت له حلقات أسبوعية يتدارس فيها مع مجالسيه بعض كتبه، ويناقش فيها أسباب الظلم وأفاعيل الظالمين وممارساتهم وحقدهم الدفين ومكائدهم السياسية والطائفية، التي تدمِّر بلاده، بلاد الشام.
• سموّه وحكمتُه:
تعرفت من خلاله على العمل الإسلامي المعاصر، وأدركت مسؤولية الإنسان ودوره في الحياة..
لم يكن يستخدم الحزبية والانتهازية والهدايا والإغراءات المتعددة، شأن كثير ممن ذهبوا للدراسات العليا، وسيلة إلى اختطاف اللقب، ومن ثم التفاخر به والاتكاء عليه لتغطية الجهل.
لم يكن متعصباً لحزب أو جماعة أو مذهب أو اتجاه فكري أو سياسي، لكنه كان أبعد ما يكون عن الانحياز.. يحاول أن ينتفع مما هو حق عند الجميع، ويحاول مناصحة وتقديم النفع للجميع.. وكثيراً ما كان نقده ممتزجاً بالفكاهة..
كان كثيراً ما يغالب نفسَه للإمساك عن الرد على من أساء إليه، لكن عينيه وملامحه خير معبِّر عما يريد قوله.
• جلَده وذكاؤه:
تعرفتُ على المكتبة الإسلامية وذخائر التراث، خاصة عندما كان يحضِّر رسالة الدكتوراه (تفسير النصوص في الفقه الإسلامي)، التي جعلت من قساوة المشرف عليه خيراً له؛ دفعه لمزيد من الاطلاع والتمحيص والتحقيق، فلم تكن رسالة الدكتوراه بالنسبة له قنطرة للوصول إلى اللقب، بل كانت تمثِّل مرحلة علمية وتعليمية ودراسية محيطة ومتعمقة.. وكان هذا من نعم الله عليه.. فشدة المشرف ورثت خيراً في النهاية.
لقد كنت أشاركه في الرجوع إلى المصادر والمراجع فعرفت الكثير من أمهات الكتب وأساليب الأقدمين، وميزة ومنهج كلِّ كتاب.
لقد كان الرجل ذا ذكاء حادٍّ، وعقل متميز.. كان لـمَّاحاً لما حوله ومن حوله.. وكان استشعاره مبكراً لكثير مما تحمله قادمات الأيام.
كان يتمتع بحاسة نقدية ملفتة،لم يدع شيئاً يمر به دون رؤيته من جميع جوانبه، لكنه كان يختلف عن كثير من النقاد بعفة لسانه وعظيم اتزانه وموضوعيته وحلمه وتحكمه بانفعاله وغضبه..
32 / 40
كانت الخِسة والصَّغار وعدم الوفاء والانتهازية من بعض تلامذته وزملائه وبعض المشايخ ممن يُسمون «علماء»، تُمرضه..
• رئيس تحرير مجلة «حضارة الإسلام»:
والشيخ رغم أن نشأته كانت في إطار المشايخ إلا أنه كان منفتحاً على الحياة، قارئاً لمجرياتها، متابعاً لتحولاتها.
رافقته في العمل بمجلة «حضارة الإسلام» الدمشقية، التي تولى رئاسة تحريرها بعد وفاة الشيخ الدكتور مصطفى السباعي _ رحمه الله _ ولم يكن لي سابق عهد بالعمل الصحفي الإعلامي، إلا أنَّ قربي من المجلة بصرني بالكثير من الجوانب الغائبة وإمكانية التطوير في الشكل والمضمون والخروج بالمجلة من السكونية إلى الفاعلية والحركة واختيار الموضوعات، كما كنت أشارك أستاذي رئيس التحرير، باختيار عناوين ومضامين الافتتاحية الشهرية، ومحاولة قراءة المناسبات الإسلامية بشكل يحفظ تراث الماضي ورؤية تغني الحاضر.
وكانت الحواجز السميكة والإشارات الحمراء في طريق المجلة كثيفة وكثيرة، وكانت الأرض والساحة الفكرية والثقافية مزروعة بالألغام، وأصبحنا وكأننا متخصصين بأبجدية جديدة بيننا وبين القرّاء، تسهل لنا ولهم القراءة فيما بين السطور والوصول إلى المعاني المطلوبة، وقطع المسافة المطلوبة دون تفجير أي لغم.
• تذكّره لهاذم اللّذات:
كنت أزوره في مدينة الرياض، بين الفترة والأخرى، وأراجع معه الذكريات والمجريات المعاصرة بكل أبعادها، وكان ذلك ينشِّط ذهنه ويجدِّد حيويته.. وكان في بعض الزيارات يُطلب إليّ البقاء أكثر، ويقول: اجلس، فقد يكون ذلك آخر لقاء لنا!
وكان في آخر زيارة لي، قبل أن يغيّبه المرض عن زواره، جالساً معنا، عاجزاً عن المشاركة في ما يدور من حديث، حتى ذهبت لزيارته في آخر ذهاب لي للرياض فاعتذر أهله عن الزيارة، فأدركت أن الشيخ دخل في مرحلة حرجة. رحمه الله، وأكرم مثواه، وتقبله في عباده الصالحين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة