كاتالونيا وأخواتها.. لماذا تتفكك أوروبا ولماذا لا يتوحد المسلمون؟!
تطرح الأزمة السياسية التي تمر بها إسبانيا في الوقت الراهن، بسبب الإجراءات التي بدأتها سلطات إقليم كاتالونيا للانفصال على الوطن الأم، العديد من التساؤلات والقضايا التي تستوجب النقاش، في اتجاهات نقاش عدة، سياسية وحضارية، بعضها يخص أمتنا الإسلامية.
ولعله من الواجب أن نشير في البداية إلى أمرَيْن من أهم الأمور التي ينبغي التنويه إليها في مستهل هذا الموضع من الحديث، ويجعلان له الأبعاد السياسية والحضارية التي سوف نتناولها بالبحث والتحليل.
الأمر الأول، أن حالة "كاتالونيا" ليست هي الوحيدة من نوعها، فهناك بالإضافة إلى كاتالونيا، حوالي تسعة أقاليم تسعى للانفصال عن بلدانها، ولجأت في ذلك مختلف الوسائل والأساليب، بما فيها الكفاح المسلَّح، ومن بينها حالة إسبانية أخرى، وهي إقليم "الباسك"، شمال البلاد.
حالة "كاتالونيا" ليست هي الوحيدة من نوعها، فهناك بالإضافة إلى كاتالونيا، حوالي تسعة أقاليم أوروبية تسعى للانفصال عن بلدانها، ولجأت في ذلك مختلف الوسائل والأساليب، بما فيها الكفاح المسلَّح
وفي إيطاليا، هناك ثلاثة محاولات للانفصال، جرى استفتاءات في اثنين من هذه الأقاليم الثلاثة على الانفصال بالفعل، ولكنها كانت إلكترونية فقط، وغير قانونية، وبالتالي كانت نتائجها غير ملزمة، وهي إقليم "فينيتو" وجزيرة فينيسيا الشهيرة.
المحاولة الثالثة تخص إقليم "جنوب تيرول" الذي كان ينتمي في الماضي، قبل الحرب العالمية الأولى، إلى النمسا، ولذلك يتحدث سبعون بالمائة من سكانه باللغة الألمانية، لكنه أصبح جزءًا من إيطاليا، بعد الحرب.
وفي ألمانيا إقليم بافاريا الممثَّل في البرلمان الفيدرالي للدولة (البوندستاج) بحزب "الاتحاد المسيحي الاجتماعي البافاري"، ويُعتبر جزءًا من حزب "الاتحاد المسيحي الديمقراطي" الذي تقوده المستشارة أنجيلا ميركل.
بينما عرفت المملكة المتحدة محاولتَيْن للانفصال، الأولى من جانب أيرلندا الشمالية، وكانت مسلحة الطابع، وقادها الجيش الجمهوري الأيرلندي أو الـ"شين فين"، بينما تسعى أسكتلندا إلى الانفصال بوسائل سلمية؛ حيث دعت القيادة السياسية للإقليم، إلى تنظيم استفتاء جديد الفترة القادمة على الانفصال عن بريطانيا.
كما تسعى جزر ألفارو إلى الانفصال عن الدانمارك، وجزر كورسيكا عن فرنسا، وهذه أجرت استفتاء بالفعل في العام 2003م، ولكنه فشل مما أدى إلى إضعاف موقف "الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا"، والتي كانت تقود هذه المحاولة منذ عقود طويلة مضت.
كما أن فرنسا معنية بأزمة إقليم "الباسك" في إسبانيا؛ حيث إن الإقليم له امتداد داخل الأراضي الفرنسية، وبالتالي؛ كان لو نجحت مساعي حركة "إيتا" الانفصالية، في الاستقلال بإقليم "الباسك"؛ لهدد ذلك وحدة الأراضي الفرنسية.
وأخيرًا، هناك محاولات إقليم الفلاندرز الواقع إلى الشمال من بلجيكا، للانفصال عنها؛ حيث تقطنه غالبية فلامنكية، تتحدث اللغة الهولندية، بخلاف الفالون الذين يشكلون أغلبية سكان بلجيكا، ويتكلمون اللغة الفرنسية.
الأمر الثاني، هو أن هذه النزعات الانفصالية تأتي في ظل واقع دولي تلى الحرب الباردة، وهو اتجاه العالم إلى التكتلات الأكبر من المستوى الجيوسياسي للدولة، سواء أكانت هذه التكتلات إقليمية، مثل الاتحاد الأوروبي، أو دولية، مثل تجمعات اقتصادية كـ"البريكس"، الذي يضم دول العالم الثالث الأسرع نموًّا، ومن بينها الصين والهند، وتجمُّع "شانغهاي" الذي يضم بلدانًا آسيوية.
وكان هذا الاتجاه الذي ارتكز على المصالح الاقتصادية بالأساس، بمثابة ردة على تفكك الكتلة الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق، وخشيةً من انتقال الفوضى التي ضربت أطنابها في أوروبا الشرقية بعد انهيار حلف "وارسو"، إلى هذه البلدان.
وتزداد غرابة الموقف؛ في أن هذه المحاولات التي شملت بعضها حمل السلاح كما حدث في أيرلندا الشمالية، وفي "الباسك"، تمت في أقاليم تقع في دول غربية؛ متقدمة اقتصاديًّا، وتتبنى أجندة سياسية واجتماعية تستند إلى قواعد "الحَوْكمة" والحكم الرشيد، وعلى رأسها احترام حقوق الأقليات، والمساواة في توزيع الثروة والسلطة.
إلا أنه كما يقول المثل العربي الشهير: "إذا عُرِفَ السبب بَطُلَ العَجَب"؛ فإننا لو درسنا بشكل أكثر عمقًا هذه الحالات سوف نكتشف أن هناك معاملات مشتركة قادت إلى هذه الحالة، وتقول بأن الغرب، بعد أكثر من ثلاثة قرون ونصف من الوصول إلى صيغة الدولة القومية التي أنهت الحروب الدينية والإقطاعية في أوروبا، بصلح "ويستفاليا" عام 1648م، وبعد قرون طويلة من التنوير والتطور الاقتصادي والحضاري؛ لم يستطع النجاح في القضاء على هذه المعاملات التي ترتبط في الذهنية حاليًا بالدول المتخلفة أو تلك التي لم تزل بعد في سلم التطور.
العامل الأول؛ هو التهميش الذي يطال هذه الأقاليم وسكانها، من جانب الأغلبيات الحاكمة.
ولو بحثنا في التفسير التاريخي والسياسي لذلك؛ سوف نجد أن الأساس الذي نهضت عليه الدول التي ظهرت بعد صلح "ويستفاليا"، كان قوميًّا وطائفيًّا؛ حيث وضعت الاتفاقية الأساس لترسيم الحدود السياسية بين الكيانات الإقطاعية الأوروبية الكبيرة، على أساس هويتها القومية، والطائفية، بين كاثوليك وبروتوستانت.
فيما خضعت أقليات دينية وقومية أخرى لهيمنة كيانات أكبر، كما في حالة إيطاليا وفرنسا وبريطانيا على وجه الخصوص، وهو ما أسس لما تعرفه أوروبا حاليًا من ظواهر.
ففي بريطانيا؛ نجد أن أسكتلندا قومية مختلفة عن إنجلترا التي تمثل عصب المملكة المتحدة، وفي أيرلندا الشمالية التباين قومي وطائفي؛ حيث إنهم ساكسون كاثوليك، بينما الإنجليز أنجلو ساكسون إنجيليون، وهي طائفة من البروتوستانت.
في مقابل ذلك؛ فإن هذه الأقاليم تعطي في الغالب؛ نسبة معتبرة من الإنتاج الاقتصادي لهذه الدول؛ حيث إن بعض التقديرات تشير إلى أن ثُلُثَي إنتاج إيطاليا الصناعي والزراعي، يأتي من إقليم "فينيتو"، بينما النسبة في حالة إقليم "كاتالونيا"، تصل إلى عشرين بالمائة.
وكل هذه الأوضاع تقول بأن الدولة القومية في أوروبا فشلت في أهم وظائف الدولة وفق العلوم السياسية وعلوم النظم، وهي دمج كل الأطياف والمجموعات البشرية التي تضمها، وتحقيق مفهوم المواطنة الكاملة، مع وجود مثل هذه المظالم.
الدولة القومية في أوروبا فشلت في أهم وظائف الدولة وفق العلوم السياسية وعلوم النظم، وهي دمج كل الأطياف والمجموعات البشرية التي تضمها، وتحقيق مفهوم المواطنة الكاملة، مع وجود مثل هذه المظالم
ولا يُعتَبر هذا الحديث مبالغة، في ظل طغيان الصورة الذهنية البراقة التي يصدرها لنا الإعلام الغربي عن الواقع الذي يعيشه الغرب في ظل النظرية الليبرالية بأجنحتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المختلفة، مثل الرأسمالية والممارسة الديمقراطية، وقيم الحرية؛ حيث إن الأمور عميقة فعلاً؛ فهناك عشرات الآلاف من القتلى سقطوا في صراع الدولة المركزية في إسبانيا وبريطانيا مع الحركات الانفصالية في الباسك، وفي أيرلندا الشمالية.
ويشير ذلك إن أن الأمر لا يتعلق بأمانٍ شعبية فحسب؛ بل إن هذه الأماني تأطرت في أحزاب وحركات سياسية واجتماعية، سعت بالقوة المسلحة أحيانًا، وبالضغوط السياسية والقانونية في أحيان أخرى، إلى الانفصال، فهناك الـ"شين فين" و"إيتا" و"الجبهة الوطنية لتحرير كورسيكا"، كما ذكرنا، في أيرلندا الشمالية وإسبانيا وفرنسا على الترتيب، وهناك أحزاب مثل "سي فينيتو" في إيطاليا، وغير ذلك.
ويرتبط بذلك بطبيعة الحال، بصعود تيارات اليمين المتطرف؛ حيث إن الأمرَيْن مرتبطين، ولكنهما يأخذان مسارَيْن مختلفَيْن، فهما في النهاية يعبران عن تصاعد النعرات القومية المتطرفة.
وحتى "البريكست" البريطاني، ودعوات ماريان لوبان وحزب الجبهة القومية في فرنسا، للخروج من الاتحاد الأوروبي، هو صورة مقاربة لذلك، ويندرج تحت المبدأ العام لهذا الذي نناقشه؛ حيث إن النعرات القومية الضيقة هي التي تقف في الغالب وراء هذه المساعي.
وهوا ما يعني بوضوح أن أوروبا لم تتجاوز بعد الصراعات التاريخية التي سادت لقرون طويلة، وأدت إلى سفك دماء مئات الملايين.
فالضحايا المدنيون والعسكريون للحربَيْن العالميتَيْن الأولى والثانية فقط، وصلت إلى حوالي 70 مليونًا، بخلاف تقديرات تشير إلى أن عشرات وربما مئات الملايين سقطوا في الحروب الدينية في القرون التي تلت انقسام الكنيسة في روما في القرن الحادي عشر الميلادي، ثم ظهور المذهب البروتوستانتي الإصلاحي في ألمانيا، في الفترة بين القرنَيْن الخامس عشر والسادس عشر.
عن واقعنا الإسلامي.. لماذا لا نتحد؟!
رأينا في العرض السابق، أن أوروبا بالرغم من أنها تعاني من كل هذه المشكلات أسفل الصورة البراقة التي تصدرها لنا؛ فإنها تعمل على تدعيم أواصر تسير بخطى ثابتة نحو الوحدة.
وفي حقيقة الأمر، ومن خلال نتائج تصويت "البريكست" البريطاني (أكثر من النصف بقليل فقط)، والتصويت في الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية الأخيرة في فرنسا، وفي ألمانيا، وردة الفعل على صعود اليمين المتطرف مرة أخرى في ألمانيا من جانب أوساط شعبية؛ يخبرنا بأن هناك تطور حققته الشعوب الأوروبية، أو شرائح منها، في القرون الماضية، مهما كانت ظلامية الصورة الكامنة تحت السطح، وبدأت في الظهور في الفترة الأخيرة.
في المقابل؛ فإنه من المدهش أن نجد أن الأمة الإسلامية تمتلك من مقومات الوحدة الكثير، ولا تسعى إليها.
فهناك الأخوة التي أسسها الدين بين عموم المسلمين، وهي أخوة عقيدية الباعث، وليست من نافلةالقول أو ذات باعث عاطفي أو ما شابه، وهناك مركزية القرآن الكريم، ومركزية اللغة العربية، والتاريخ المشترك.
وهناك تجارب عدة في تاريخ الدول الإسلامية المختلفة التي ظهرت في القرون الماضية، ما يؤكد بأن الإسلام لديه من التعاليم ما يضمن العدالة للأقليات، بخلاف ما هو حاصل في أوروبا.
الإسلام لديه من التعاليم ما يضمن العدالة للأقليات، بخلاف ما هو حاصل في أوروبا
فالدولة النبوية الأولى، والدولة العمرية، ودولة عمر بن عبد العزيز، والدولة العباسية الأولى؛ تقول بأن الإسلام يملك من التصورات والتعاليم، وكذلك من الأطر التطبيقية، مما يمكنه من تحقيق دولة التنمية، ودولة العدالة والمساواة والمواطنة.
لكننا للأسف الآن، لا نجد إلا شعارات عنصرية ونعرات قومية فارغة، وتحول بعض الشعوب العربية والمسلمة إلى مذمة الشعوب الأخرى في الفضاءات الإلكترونية بالذات، والتي تحولت إلى فوضى حقيقية؛ فرَّقت الأمة ولم تجمعها.
إننا بحاجة الآن إلى أن نستلهم تعاليم ديننا، وتاريخ الفترات التي تم فيها تطبيق صحيح الدين، بحيث أسست دولة الخلافة في حينه النموذج المثالي الذي يبحث عنه العالم ولم يجده.. حتى في أوروبا "المتحضرة"، وأن نبرز ذلك أمام العالم؛ نبرز أن الإسلام – متى طُبِّق كما أنزله الله تعالى لعباده – إنما بالفعل وصدقًا؛ يحمل المعالجة لآلام البشرية كلها، ويملك في طياته مفاتيح سعادتها، الروحية والمادية.
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة