كاتبة
وإذا نظر إليها
سمعت وقع خطواته تقترب من المطبخ, فهتفت وهي تحرك الطعام :
- هل أتيت ؟؟ لحظات ويكون الغداء جاهزاً .
توقف برهة يتأملها دون أن تدري, ثم اتجه إلى غرفة نومه وقد ارتسمت بسمة ساخرة على شفتيه .
تعالى نداؤها بعد قليل : أحمد .. الغداء جاهز ..
أزاح الجريدة بعيداً وقام بتثاقل نحو المائدة, وجلس مقطب الجبين, بينما هي تروح وتغدو.. تنقل الأطباق وترتب الكؤوس وتسكب الأرز ...
أخيراً جلست، وهتفت وهي تقطع رغيف الخبز : بسم الله .. هيا
وبدأت طعامها, ثم انتبهت إلى يده التي لم تمتد, فرفعت بصرها إليه لتجده يتأملها وما زالت البسمة الساخرة عالقة على شفتيه ..
جمدت اللقمة في فمها, وتركت الملعقة, وهمست بتوجس : ما بك ؟ أحوالك لا تعجبني هذه الأيام ..
ردّ متسائلاً : أحوالي أم أحوالك ؟؟
تعجبت : أحوالي أنا !! ما بي أنا ؟
- لا أعرف .. ولكن .. هل تنظرين إلى نفسك في المرآة ؟
وبارتباك أجابت : المرآة ؟ لا .. أقصد نعم .. ماذا فيها ؟
وبحدة قال : فيها صورتك كما أراها يومياً .. الثوب القديم الناحل, والشعر المشعث, والوجه الشاحب.. والرائحة ..
ودفع صحنه ونهض متأففاً ..
سألته : إلى أين ؟ لم تأكل بعد ؟؟
وبعبوس أجاب : لا رغبة لي في الأكل .. واتجه إلى غرفته
لحقت به تهتف بانفعال : ماذا تريدني أن أفعل ؟؟ منذ الصباح وأنا في حركة دائبة, لا أكلّ ولا أملُّ, تنظيف .. غسيل .. طبخ .. وفوق كل هذا الرضيع لا يكف عن الصياح, وأنت تريدني عروساً كل يوم !! ماذا أفعل .. قل لي بربك ؟
أشار بإصبعه إليها أن تصمت قائلاً : لا ترفعي صوتك فيصحو الطفل وتلومينني على ذلك.. هيا أكملي طعامك وسآكل متى جعت ..
واستلقى على سريره مديراً ظهره لها, بينما رجعت هي تجمع الأطباق عن المائدة, وتبتلع دموعها الكاوية ..
أما هو .. فانطلق يحصي بخياله عشرات النساء اللاتي يصادفهن كل يوم في عمله, وكلهن دائماً في أبهى حلة وأجمل منظر وأطيب ريح, وتنهد وهو يغمض عينيه .. آه يا علية.. ما ضرك لو صرت مثلهن ؟ ولكن لا فائدة.. ثلاث سنوات على هذه الحال, ولا تغيير .
وتراءت له صورة زميله فؤاد - يوم عرف منه ما أهمّه - وهو يقول : يا أحمد.. زوجتك كما تصفها ابنة حلال وصغيرة السن، ولعلها تظن أن الطعام الجيد والبيت النظيف هما كل ما يريده الرجل, بل لعلها رأت أمها هكذا أمامها دائماً .. فلم لا توضح لها ما ترغب فيه بهدوء ورفق ومحبة ؟ لم لا تعينها على تطبيقه ؟ .
تململ في رقدته, وأغمض عينيه وهو يردد لنفسه .. كم حاولت وكم قلتُ ونبهتُ ولا فائدة..
لكن صورة علية بنظراتها الحائرة وقسماتها الحزينة ارتسمت أمامه, فلم يستطع النوم .. وتساءل : لم لا أجرب ثانية .. بطريقة أخرى ؟؟
في اليوم الثاني دخل المطبخ مبتسماً, وهو يخفي شيئاً ما خلف ظهره.. ردّت على تحيته الودود بابتسامة خجلى, وهمست كعادتها : لحظات ويكون الطعام جاهزاً .
اقترب منها قائلاً : سلمت يداك, رائحة الطعام لذيذة, لكني أريد أن أشمها من الوعاء .. من الوعاء فقط, أرجوك ..
ووضع في كفها الهدية - قارورة عطر- واستدار خارجا إلى حيث الصغير يلاعبه ريثما تهيئ المائدة ..
وحين نادته أخيراً, كانت كما أحب دائماً أن تكون .. إذا نظر إليها سرّته .
ثناء كامل أبوصالح
المصدر : صفحة حروف تلوّن الحياة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة