أهو حُلم تجاوز سقف الواقع.. أن ننهض؟
حين سبق السوفييت أمريكا بإطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء، صُدمت امريكا لتفوق السوفييت العلمي، فسارعت إلى مراجعة أوضاع التعليم، وسد الثغرات التي أدت إلى تخلف الأمريكيين في الرياضيات والعلوم، وشكلت لجنة من 36 خبيرا، وأصدروا تقريرا شهيرا بعنوان «أمة في خطر»، فمتى قومي يعترفون بالخطر؟
الخطر ليس في تقاعس الحكام والملوك، إنما في موت الشعوب وغفلتها، وما من شعب تسلط عليه الظالمون إلا بغفلته وطول رقدته، لذا عمد المستبدون إلى إذلال الشعوب لوأد حركتها، وإجبارها على التسليم لعبثهم وفسادهم.
يقول المفكر الإسلامي محمد الغزالي: «إن إذلال الشعوب جريمة هائلة، وهو في تلك المرحلة النكدة من تاريخ المسلمين عمل يفيد العدو ويضرّ الصديق، بل هو عمل يتم لحساب إسرائيل نفسها.. فإن الأجيال التي تنشأ في ظل الاستبداد الأعمى تَشبُّ عديمة الكرامة قليلة الغناء، ضعيفة الأخذ والرد».
ربما يكون الغزالي قد أجمل في تلك العبارات، العلاقة الحالية بين الكيان الإسرائيلي وحكام العرب، ومَن تحت أيديهم من الشعوب التي استُلِبت إرادتها.
هكذا أُريد للشعوب العربية والإسلامية أن يكون موقعها من الإعراب مفعولا به مسلوب الإرادة، لا تعرف للفاعل مرفوع الشأن شكلا، لأن هذه الأدوات التي تخدم العدو، وتلك الدُّمى التي تُحركها أصابع الصهيونية العالمية، قد أُتيَ بها لحماية ذلك الكيان السرطاني الخبيث، ومن أجل الحفاظ عليه لابد من إخضاع الشعوب وإماتة جذوة الكرامة والحرية فيها، مدفوعين في ذلك ببريق العروش التي يبيعون بلادهم من أجلها، مستعينين بتجار الدين والمنتسبين إلى العلم والشريعة، في شرعنة الاستبداد والتكريس للظلم الاجتماعي تحت مظلة الصبر والرضا بسوء الأوضاع، فهم كما قال فيهم الكواكبي: ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكّام عن المسؤولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصّبر عليهم إذا ظلموا، وعدّوا كلّ معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين؟!
بعدما بِيعت أرض فلسطين بثمن بخسٍ وكان حكام العرب فيها من الزاهدين، ومع تماديهم في قهر الشعوب، جاء الوقت الذي نزعوا فيه براقع الحياء، وصار اللعب على المكشوف، ولم يستر «أبو إيفانكا» عوراتهم، فأعلنت القناة الإسرائيلية أن الرجل قد أبلغ بعض حكام العرب باعتزامه الإعلان عن القدس عاصمة لدولة إسرائيل، وصدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت)، فما عاد التبرير للشعوب ضروريا، فالجماهير مُكبّلة بالخوف والانشغال بالأزمات الداخلية، وتم ترويضها ونزع أنيابها بيد حكامها.
بيْد أن الأزمة التي اندلعت مؤخرا عقب إعلان ترامب القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي – ضاربا عرض الحائط بكل جهود التسوية والتعويل العربي على الوساطة الأمريكية – أكّدت من جديد على اتساع تلك الفجوة بين الحكام والشعوب، ففي الوقت الذي مارس الحكام عادتهم المألوفة في الشجب والاستنكار، وهم يتثاءبون، هبّت الشعوب في العواصم العربية والإسلامية، ومعهم الجاليات في الدول الغربية، للتظاهر الغاضب نصرة للقدس، يؤازرون إخوانهم المرابطين حول الأقصى الذين يزفون الشهيد تلو الشهيد، والجريح تلو الجريح.
أُثلجت الصدور بمرأى تلك النخوة والشعور بحرارة الجذوة التي لم يخمدها الاستبداد في قلوب الرجال، فهل آن الأوان لتفكر الشعوب في قضايا الأمة بمعزل عن حكامها النائمين؟ ألا يصلح في ظل عمالة بعض الحكام وتخاذل البعض الآخر، أن تتحرك الشعوب وحدها من دون التعويل على الحكام؟
بإمكان الشعوب أن تُبقي قضية القدس مشتعلة إذا تمحورت حولها وجعلتها قضيتها المركزية، بوسع الجماهير الغفيرة أن تخلُق رأيا عاما إسلاميا وعربيا وعالميا يستنكر ويُندد بالجرائم الصهيوأمريكية.
خلال تلك الأزمة سخر البعض من وسائل التواصل الاجتماعي قدراتها على إحداث أثر ملموس، وأطلقوا الضحكات والتعليقات التهكمية حيال المنشورات التي يبثها الناشطون على تويتر وفيسبوك، وهذا جهل بهذه القوة التي تفجرت خلال ثورات الربيع العربي، وأصبحت تُمثّل الإعلام البديل، ومن ثم تدفقت الدراسات والأبحاث حول حدود هذه القوة وتأثيرها وكيفية الاستفادة منها، فلْتُعلنها الأمّةُ حربا ضد الصهيونية على مواقع التواصل، رغم تهكم الساخرين، ومعركةَ وعيٍ بعناصر القضية الفلسطينية تبُقيها حية ساخنة.
ثم يأتي دور المقاطعة للمنتجات الأمريكية والإسرائيلية، ليكون أبلغ ردٍّ على إعلان ترامب، وتتكاتف مؤسسات المجتمع المدني والأفراد المُتنفِّذين لتفعيل المقاطعة بصورة منهجية تضمن استمرارها.
لكن سقف الأحلام لا يرتفع إلى التعاطي مع القضية الفلسطينية فحسب، الفكرة أن تتحرك الشعوب بمعزل عن حكامها الغافلين أو المتغافلين في جميع الأزمات.
أهو حلم تجاوز سقف الواقع، أن تكسر الشعوب حواجز «سايكس بيكو» – النفسية قبل الجغرافية – وتتعامل بروح الأمة الواحدة؟
أهو حلم أن نتخلّى عن النظرة الشعوبية والشعور بالفوقية أمام أشقائنا وبني جلدتنا؟ أم هو حلم أن تكفَّ الشعوب عن النظر إلى بعضها من خلال نظارات الحكام والملوك، وتدع لهم الاختلاف، وتنشغل في ما بينها بالائتلاف؟ أم هو حلم أن يعمل كل فرد في بلده وعينُه على المصالح العليا الكلّية للأمة، ويُدرج الانتماء لوطنه في انتماءٍ عام للأمة، يكون جزءًا منه، يتناغم معه بلا تعارض؟
أهو حلم تجاوز سقف الواقع أن يُدرك كل شعب أن الدولة لا تعني الحاكم، وأن جرائم قادة الدول الأخرى ينبغي أن لا تدفع فاتورتها الشعوب؟
قولوا: واهمة، وقولوا: ذات أحلام وردية، ونعم إنه حُلم، ولكن لا بد منه، لأن هذا هو ما ينبغي أن يكون، نعم إنه حلم يحتاج إلى يوسف الزمان ليعْبره، وما ذلك على الله بعزيز، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن