أقوال مأثورة في شرف اللغة العربية
إن لغة اصطفاها الله تعالى من بين اللغات جميعًا لتكون وعاءً لكتابه الخالد «القرآن الكريم»؛ لا شك لغة تتربع على عرش الألسنة واللغات؛ ذلك لأن لها من الخصائص والميزات ما تستحق به هذا الاصطفاء.
وتلك مفخرة لنا نحن العرب، غبطنا عليها أهل الفكر والثقافات، شرقيون أو غربيون.
يقول المستشرق الفرنسي ماسينيون: «باستطاعة العرب أن يفاخروا غيرهم من الأمم بما في أيديهم من جوامع الكلم التي تحمل من سمو الفكر وأمارات الفتوة والمروءة ما لا مثيل له!»[1].
هذا؛ ونظرًا لأن اللغة العربية قد حملت آخر رسالات السماء إلى الأرض وأريد لها أن تكون لسان الوحي، وقدر لها أن تستوعب دليل نبوة الإسلام، واختزال مضامين الرسالات السابقة، والانطواء على المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه إلى يوم الدين[2]؛ نظرًا لهذا «فقد كانت دراسة اللغة العربية عند الأقدمين مرتبطة بالعامل الديني، ونتيجة لهذا الارتباط الوثيق فقد خلفت لنا العصور الأدبية على امتداد التاريخ اهتمامًا كبيرًا بلغة القرآن الكريم سواء فيما يتصل برصد مروياتها من الآثار الأدبية من شعر ونثر، أو فيما يتصل بإحصاء مفرداتها، وتسجيل أوابدها وغرائبها في المعجمات والقواميس اللغوية، أو فيما يتصل باستنباط القواعد والأسس التي تعنى بسلامتها، والمحافظة على أصولها الموروثة، ووضع الدراسات اللغوية الخاصة باكتناه أسرارها، والكشف عن خصائصها ومميزاتها»[3].
ويقرر هذا أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ) إذ يقول: «من أحب الله - تعالى - أحب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه؛ اعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة؛ إذ هي أداة العلم، ومفتاح الثقة في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد.
ثم هي لإحراز الفضائل، والاحتواء على المروءة، وسائر أنواع المناقب كالينبوع للماء والزند للضارب، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة التبصر في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان لكفى بهما فضلًا، يحسن فيهما أثره، ويطيب في الدارين ثمره»[4].
ويقول الإمام الشافعي (ت 204هـ): «فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون بعضهم تبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع. وأولى الناس بالفضل
في اللسان من لسانه لسان النبي. ولا يجوز - والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد»[5].
وها هو ذا ابن قتيبة (ت 276هـ) يقول: «وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خص الله به لغتها دون جميع اللغات. فإنه ليس في جميع الأمم أمة أوتيت من العارضة، والبيان، واتساع المجال ما أوتيته العرب خصيصى من الله لما أرهصه الله
في الرسول صلى الله عليه وسلم وأراده من إقامة الدليل على نبوته بالكتاب»[6].
ويقول الزجاجي (ت 337هـ): «وأمّا اللغة - وهي العربية - التي فضل الله عز وجل بها العرب، وأنطقهم بها فهي لغتهم. كما أنّ لكل قوم لغة يتكلمون بها»[7].
ويروى عن الزجاج (ت 311هـ) أنه سمع أبا العباس المبرد يقول: «كان بعض السلف يقول: عليكم بالعربية فإنها المروءة الظاهرة، وهي كلام الله - عز وجل - وأنبيائه وملائكته»[8].
وفي ديوان الأدب عدّد الفارابي (ت 350هـ) فضل الله على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بكل فاضل ونفيس من زمان، وبلد، وأصحاب، واسم، وخلق، وسمت، ونسب، ولسان...؛ فقال: «أما اللسان فهو كلام جيران الله في دار الخلد، وهو المنزه من بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلى على كل خسيسة، والمهذب مما يهجن أو يستشنع، فَبُنِيَ مباني باين بها جميع اللغات»[9].
هذا؛ ويعدّ القول بتفضيل ابن جني (ت 392هـ) للغة العربية من قبل تحصيل الحاصل إزاء افتتانه بإحكام العربية وسحر أسرارها افتتانًا هزّه عن مذهب المعتزلة في القول بأن اللغة اصطلاحية - وقد كان منهم - ليقول: «إنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة؛ وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليّ جوانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر.
فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه
وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به وفرق لهم عنه، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله عز وجل؛ فقوي في نفسي كونها توقيفًا
من الله سبحانه، وأنها وحي»[10].
ويقول العلامة السرقسطي (المتوفى بين 403 و410 تقريبًا): «إن أشرف ما عني به الطالب
بعد كتاب الله عز وجل لغات العرب وآدابها، وطرائف حكمها؛ لأنّ الله تبارك وتعالى اختارها
بين اللغات لخير عترة، وأشرف أمة، ثم جعلها لغة أهل دار المقامة في جواره ومحل كرامته. فهي أفصح اللغات لسانًا، وأوضحها بيانًا، وأقومها مناهج، وأثقفها أبنية، وأحسنها بحسن الاختصار تألفًا، وأكثرها بقياس أهلها تصرفًا»[11].
وفي مقدمة كتاب الفائق للإمام الزمخشري (ت 538هـ)، يقول: «الحمد لله الذي فتق لسان
الذبيح، بالعربية المبينة والخطاب الفصيح، وتولاه بأثرة التقدم في النطق باللغة التي هي أفصح اللغات، وجعله أبا عذر البلاغة التي هي أتم البلاغات»[12].
وبعد؛ فهذا غيض من فيض مـما أشاد به أئمتنا الأجلاء؛ إدراكًا منهم لمكانة اللغة العربية وأهميتها بالنسبة لفهم الدين.
ولا عجب؛ فالعربية - كما قلنا - ليست كأية لغة من اللغات الأخرى؛ بل هي فريدة من نوعها؛ اصطفاها الله من بين اللغات جميعًا لتكون وعاء لكتابه الخالد «القرآن الكريم» كما اختارها لتكون لسان نبيه الأمين؛ لذا أوجب الشارع الحكيم تعلمها حتى تُفهم مقاصد الكتاب والسنة.
يقول الإمام الشافعي - رحمه الله -: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك»[13].
في الوقت الذي أرجع فيه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - الخلط في الدين عند أهل
البدع إلى قلة فهم اللغة العربية؛ فيقول: «لا بد في تفسير القرآن والحديث من أنْ يعرف ما يدل
على مراد الله ورسوله من الألفاظ وكيف يفهم كلامه. ومعرفة العربية التي خوطبنا بها مما يعين على أنْ نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك ضلال أهل البدع كان لهذا السبب؛ فإنهم صاروا يحملون كلام الله ورسوله على ما يدعون أنه دال عليه ولا يكون الأمر كذلك»[14].
وأوجب شيخ الإسلام ابن تيمية على المسلم تعلم اللغة، فقال: «إن معرفة اللغة من الدين، ومعرفتها فرض واجب، وإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»[15].
والإمام الشافعي - رحمه الله - في وضعه للأصول المعتمدة في فهم النصوص وتأويلها اعتمد منطق اللغة العربية.. وقد أورد السيوطي (ت 911هـ) قول حرملة بن يحيى: «سمعت الشافعي يقول: «ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس... ولم ينزل القرآن ولا أتت السنة إلى على مصطلح العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال لا على مصطلح اليونان، ولكل قوم لغة واصطلاح»[16].
المصدر : مجلة البيان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن