التيار الثالث في إيران: الهوة بين الشباب وأجيال الثورة الأولى
على الرغم من أن حوادث نهاية عام 2017 في إيران أُخمدت عمليًّا، إلا أن هناك دروسًا من هذه الحوادث لا يمكن المرور عليها بسهولة، ويمكن القول: إنه، وبموازاة السبب الاقتصادي لهذه الاحتجاجات، كان ملحوظًا أن الهوة بين الشارع الإيراني الشاب والأجيال الأولى للثورة باتت كبيرة جدًّا، وهذا ما أشار إليه الرئيس روحاني بصراحة خلال لقائه مع كبار المسؤولين الاقتصاديين للبلاد. وحسب قول روحاني، فإن الشباب يشكِّلون أكثرية عدد سكان البلاد؛ وعليه فإن الحكومة يجب أن تنتبه لمطالب هؤلاء [1].
كان من السهل لمن راقب التظاهرات الطلابية التي خرجت من جامعة طهران في شارع انقلاب (الثورة) أن يلاحظ عدة أمور، أهمها:
أن الشباب الجامعي متوجس بشأن مستقبله ومصير البطالة الذي سيواجهه بعد التخرج.
الشباب قاموا برفع شعارات معارضة للإصلاحيين والأصوليين معًا.
يطالب الشباب بالتخلص من الضغوط الاجتماعية التي فرضتها الأجيال الأولى للثورة ويعتبر أن الأجيال الأولى لا تتفهم مطالبه.
تخوف الشباب الجامعي من مستقبله
إن إحدى أكبر المشاكل التي تواجه الشباب الإيراني اليوم تتلخص في فتح أبواب الجامعات أمام مجتمع تتمحور ثقافته على أساس الوصول إلى أعلى المدارج العلمية. وعليه، فإن معظم الشباب يحاول الدخول إلى الجامعات والحصول على شهادات عالية أملًا منه بأن يجد عملًا متناسبًا مع شهادته ولكن الجمود الاقتصادي الذي تواجهه البلاد خلال السنوات الأخيرة أدى إلى انخفاض نسبة التشغيل في القطاعات الخدماتية والصناعية في حين أن الطلب على الأشغال الحرفية يزداد يومًا بعد يوم والشباب الجامعي لا يرضى أن يلبس الياقة الزرقاء ويطالب لنفسه بعمل الياقات البيضاء [2].
وخلال السنوات الماضية، استمر تدفق خريجي الجامعات إلى سوق العمل بشكل كبير، وفي حين كانت نسبة البطالة ضمن خريجي الجامعات في سوق العمل قبل الثورة لا تزيد عن خمسة بالمئة فإنها اليوم تزيد عن الخمسين بالمئة [3].
شعارات معارضة للإصلاحيين والأصوليين معًا[4]
اجتماعيًّا، درجت العادة على أن ينضم الشبان الجامعيون في معظم بلاد العالم إلى الأطياف المعارضة للحكومات وذلك بسبب شخصياتهم الرافضة للوضع الموجود. ولا يختلف الوضع الاجتماعي للشباب في إيران عن باقي الشباب في مناطق مختلفة من العالم. وعلى هذا الأساس، نرى الشبان يقومون باتخاذ موقف معارض للرئيس رفسنجاني في نهايات حكمه ثم يقومون بتوجيه أشد الانتقادات للرئيس خاتمي في جامعة طهران في آخر أيام حكمه ويهاجمون الرئيس أحمدي نجاد في جامعة شريف ويرفعون صوتهم ضد الإصلاحيين والأصوليين في تجمعات نهاية عام 2017 من أمام جامعة طهران التي تُعتبر رمزًا تاريخيًّا للتحركات الطلابية في البلاد.
ومع أن معظم الشبان الجامعيين في إيران كانوا يدعمون الطيف الإصلاحي أملًا منهم بإيجاد إصلاحات سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية في البلاد، وكانوا يأملون بأنَّ وصول الإصلاحيين الداعمين للرئيس روحاني إلى السلطة من خلال مناصب مهمة في الحكومة، وسيطرتهم على مجلس الشورى ومجالس البلدية، من الممكن أن يؤدي إلى تحسين أوضاعهم، ولكنهم تفاجؤوا بأن الظروف لم تتغير تبعًا للتصويت للأصوليين أو بالتصويت للإصلاحيين.
ويرجع سبب غضب الشباب عامة إلى أن مطالبهم الإصلاحية تختلف عن أهداف زعماء الإصلاحيين [5]؛ ففي حين أن الصراع بين التيارين، الإصلاحي والأصولي، في البلاد يتمحور حول وصول أحد الاتجاهين إلى السلطة التنفيذية واحتلال المناصب الإدارية؛ فإن مطالب الشباب تتمحور حول تغييرات جذرية في أمور مختلفة خاصة الاجتماعية منها والثقافية أكثر من السياسية، إضافة إلى حل مشكلة بطالة الشباب ومشاكل الشباب الاقتصادية. [6]
وحين يرى الجيل الشاب أن التيارين الأصليين لا يؤمنان بما يطالب هو به فإنه يفقد الأمل بهما. وعليه، يمكن القول بأن هناك تيارًا ثالثًا اليوم، بدأ بالظهور في البلاد رافضًا للتيارين العتيقين بشكل كامل.
كان الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد، أول من اكتشف بداية صعود هذا التيار وحاول السيطرة عليه عبر إيجاد فرص عمل للشباب على حساب الأجيال الأولى للثورة ومحاولة احتوائهم ولكن شخصية وخطاب أحمدي نجاد السياسي والاجتماعي لم يستطع جذب قسم كبير من هذا التيار في المدن الكبرى في حين أن معظم الشباب الذين كان لديهم اتجاهات أصولية التحقوا به في المدن الصغيرة والقرى النائية وطلاب العلوم الدينية الشباب [7].
على الرغم من أن الإصلاحيين اكتشفوا وجود التيار الثالث أيضًا وحاولوا احتواءه عبر إيجاد أحزاب وتنظيمات شبابية إلا أن معظم الشبان من الاتجاه الثالث، والذين يشكِّلون الأكثرية الجامعية نسبيًّا، رفضوا الانضمام الى هذه الأحزاب والتنظيمات أو الخضوع للإصلاحيين بشكل كامل، على الرغم من أننا شاهدنا أن هذا التيار كان له فضل كبير في دخول لوائح الإصلاحيين والداعمين لحكومة الرئيس روحاني إلى البرلمان ومجالس البلدية وانتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة.
ويمكن القول: إن جميع الإيرانيين يعلمون أن سبب دعم هذا التيار للرئيس روحاني لم يكن حبًّا بروحاني بل كان خوفًا من عودة استئثار الأصوليين بالسلطة [8].
ويعلم السياسيون، وعلى رأسهم الرئيس حسن روحاني، أن هذا التيار يشكِّل النسبة الأكبر من الناخبين في البلاد إضافة إلى أنه يؤثِّر على الشارع بشكل كبير وكل من يستطيع جذب هذا التيار إلى جانبه يستطيع ضمان فوزه في أية انتخابات.
إن خيبة أمل قسم كبير من الشعب في كيفية إدارة الأصوليين أو الإصلاحيين للبلاد خلال العقود السابقة أدت إلى توسيع دائرة المجموعات التي تعتبر ضمن التيار الثالث، والمشكلة الأساسية التي يواجها هذا التيار هي عدم وجود أهداف معلنة أو قيادات محورية له وأن معظم الذين حاولوا استغلال مطالب التيار الثالث خذلوه بشكل أو بآخر.
الهوة الاجتماعية بين الأجيال الأولى والجديدة للثورة
تَعتبر الأجيال الأولى للثورة أن أحد أهم إنجازاتها كان الاتفاق على تشكيل نظام إسلامي يمكنه توحيد البلاد مع إعطائها نوعًا من الديمقراطية الدينية التي استطاعت إيجاد صيغة سياسية بديلة تمكِّنهم من إسقاط حكم الشاه [9]. وفي الواقع، إن انتماءات الذين قاموا بالثورة على الشاه كانت مختلفة وحتى متباينة فيما بينها البعض، من رؤى يسارية متطرفة إلى رؤى يمينية متطرفة.
وفيما كان اليمين يعاني من ضعف قوته العسكرية والشبابية في الشارع كان اليسار يسيطر على زمام أمور البلاد ويفرض نوعًا من الاشتراكية الدينية أملًا منه بأن تخرج البلاد بعد سنوات باقتصاد يعتمد على نفسه ولا يحتاج الاستيراد من الخارج.
وعليه، ففي بداية الثورة واجهت البلاد نوعًا من الانغلاق الاقتصادي واكبته الحرب العراقية-الإيرانية التي أدت إلى توجه الإيرانيين للعيش في تقشف والابتعاد عن الرفاهية.
وعندما وصل الرئيس السابق، هاشمي رفسنجاني، الذي كانت لديه ميول يمينية ويمثِّل تجار البازار، إلى السلطة حاول فتح أبواب البلاد أمام العلاقات والتجارة الخارجية حيث واجه امتناعًا شعبيًّا من قِبل شعب تعوَّد العيش في تقشف لعقد من الزمان. وعليه، فقد تصور أن البلاد تحتاج إصلاحات ثقافية واجتماعية تمكِّنه من تقبل الظروف الجديدة للبلاد.
وبدخول الإصلاحات الثقافية والاجتماعية الجديدة إلى البلاد، واجه المجتمع الإيراني خاصة الشباب منهم نوعًا من الازدواجية الثقافية بين طريقة حياته في العقد الأول للثورة وطريقة الحياة الجديدة التي كانت الحكومة تروِّج لها.
وما زاد من هذا التضارب في توجهات المجتمع كان أن وزير ثقافة رفسنجاني، محمد خاتمي، تصدى لمنصب رئاسة الجمهورية بعد رفسنجاني مع وعود إصلاحية في حين أن معظم الموالين له كانوا نفس اليساريين الذين أدخلوا البلاد في حياة اشتراكية مع بداية الثورة.
وفي حين كان شيوخ الإصلاحيين يعتقدون أن الإصلاحات تكمن في إعادة البلاد إلى الحياة الاشتراكية ولكن بحلتها الجديدة المشابهة للصين أو الاشتراكية الديمقراطية الموجودة في بعض البلدان الأوروبية، كان شباب الإصلاحيين يطالبون بالنموذج الأميركي والرأسمالي لإصلاحاتهم.
وهذا التضارب في الأفكار واجه معارضة شديدة لقسم من المجتمع الذي اعتبر أنه ضحَّى بنفسه وبأبنائه في جبهات الحرب دفاعا عن البلاد في حين أن النخبة السياسية والاقتصادية في البلاد كانت تجمع الأموال خلف الجبهات [10].
واستمرت الهوة تكبر بين الأجيال الأولى والأجيال الجديدة للثورة مع نفوذ الإعلام الغربي خاصة عبر محطات تبث باللغة الفارسية عبر الأقمار الصناعية وشبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت وتصوير الحياة الغربية على أساس أنها الحياة النموذجية التي يحلم بها كل شاب إيراني.
وفي المقابل، لم يستطع الإعلام الداخلي في البلاد مواجهة هذا الهجوم الواسع بسبب تمحور هذا الإعلام حول الخلافات السياسية بين الإصلاحيين والأصوليين وعدم انتباهه لتلبية مطالب جمهوره الشاب [11].
استطاع النفوذ الإعلامي الغربي أن يجد طريقه إلى الجيل الشاب ويوجد لديه أسئلة عديدة عن سبب أو ضرورة تحمل الشباب للظروف المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والدولية للبلاد في حين أن الأجيال الأولى للثورة كانت مشغولة في خلافاتها السياسية أو مشاريعها الاقتصادية ولم تنتبه إلى ضرورة الإجابة على استفسارات الشباب وتلبية مطالبهم.
وبما أن معظم الشباب كان يَصبو إلى الإصلاحات (حسب رؤيتهم) وكان الأصوليون يسيطرون على السلطة لم ينتبهوا إلى أن مطالبهم الإصلاحية تختلف عن مطالب شيوخ الإصلاحيين. وعليه، فقد انجذبوا إلى الاتجاه الإصلاحي لمعارضة الأصوليين الذين كانوا يحكمون البلاد.
ولكن بعد وصول الرئيس حسن روحاني وعودة الإصلاحيين إلى بعض المناصب، وجد الشباب الإصلاحي أن مطالبه تختلف عمَّا يضمره شيوخ الإصلاحيين؛ فالهوة بينهم وبين شيوخ الإصلاحيين توسعت أيضًا واليوم بات معظم الجيل الشاب الإيراني مبتعدًا عن أهداف الأجيال الأولى للثورة إصلاحية كانت أم أصولية [12].
وفي حين أن الأصوليين لم يكن لديهم الديناميكية اللازمة للتكيف مع الظروف الجديدة فإنهم حاولوا إيجاد صيغ جديدة للتعامل مع الجيل الشاب. وعليه، قاموا بإعطاء وعود إصلاحات اجتماعية تلبِّي طلب الجيل الشاب في الانتخابات ولكن في لفافات كي لا يضطروا للتقيد بها؛ الأمر الذي أدَّى إلى فوزهم في معظم الانتخابات الأخيرة.
ولكن بعد حوالي خمس سنوات من وصول الرئيس روحاني إلى السلطة وعدم تنفيذ الوعود الانتخابية خاصة مع نجاح تياره في البرلمان ومجالس البلدية، فإن الشباب باتوا يشعرون بخيبة أمل كبيرة تجاه الوصول إلى أهدافهم في الإصلاحات الاجتماعية والثقافية عبر انتخاب الإصلاحيين أو الأصوليين.
والبطالة التي يعاني الجيل الشاب منها يقابلها استيلاء الأجيال الأولى للثورة على عشرات الوظائف والمناصب الإدارية، وحصولهم على رواتب نجومية تسبَّبت بفضائح لحكومة الرئيس روحاني، أدت إلى غضب عارم فيما بين الشباب الذي بات يبحث عن طريق جديد له يكون خارجًا عن توجهات الإصلاحيين أو الأصوليين وبات العديد منهم يعتبر أن احتكار الأجيال الأولى للمناصب الكبرى في الدولة يعتبر سببًا أساسيًّا لمجمل مصائب البلاد.
ويُرجِع العديد من المحلِّلين سبب هذا الشرخ الكبير فيما بين الأجيال الأولى والجيل الجديد إلى أن الأجيال الأولى التي استأثرت بالسلطة منذ أكثر من أربعين عامًا لم تستطع التأقلم مع الظروف والمتطلبات الجديدة وتهيئة برامج تحل المشاكل الاقتصادية أو الاجتماعية للجيل الشاب وما زالت تصر على فرض الأفكار القديمة على الجيل الشاب.
خلاصة
الهوة بين الأجيال الأولى والجديدة للثورة في إيران تكبر يومًا بعد يوم وإصرار الأجيال الأولى على فرض إرادتها على الجيل الجديد يوسِّع هذه الهوة بشكل كبير.
إلى اليوم، لا يصبو الجيل الشاب، إلى تغيير النظام في البلاد بل يطالب بإصلاحات اقتصادية واجتماعية وثقافية تلبي مطالبه، بينما الاتجاهات السياسية الموجودة لم تستطع تلبية مطالبه. وعليه، فإن اتجاهًا ثالثًا بدأ بالظهور في البلاد. ونرى أن الرئيسين الأخيرين، محمود أحمدي نجاد وحسن روحاني، حاولا ركوب موجة الاتجاه الثالث بإعلان عدم انتمائهم لأي من الاتجاهين الأصليين في البلاد، مع أن أحمدي نجاد وصل إلى السلطة بدعم من الأصوليين وروحاني وصل إلى السلطة بدعم من الإصلاحيين.
الاتجاه الثالث متشتت ويفتقر إلى قيادة أو أهداف واضحة. وعليه، فإنه لم يستطع أن يتبلور فكريًّا وسياسيًّا بشكل كامل ومحاولة الاتجاهين السياسيين الأصليين في البلاد لاحتوائه لم تكن ناجحة، لأن -وكما أسلفنا- مطالب هذا الجيل تختلف مع أهداف الاتجاهين السياسيين، وعليه، من الممكن أن يؤدي عدم تلبية مطالب الجيل الشاب إلى انقلاب هذا الجيل على الاتجاهين السياسيين الموجودين في البلاد عاجلًا أو آجلًا، وحوادث نهاية عام 2017 تضمَّنت إنذارًا خجولًا من هذا الجيل، حيث إن وسائل التواصل الاجتماعي استطاعت تحريك هذا الاتجاه بسهولة.
المصدر : الجزيرة نت
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة