ضحكاته الخمس
بينما كان يتداول في مجتَمعي "حرام كل خلفتهم بنات "، كان لأبي رد آخر، كان يقول: كل بنت لدي أفضل من عشرة أولاد وأضعاف، "يَقولون إن البيت الذي يخلو مِن البنات بارد وقاتم ولا توجد به حلويات.. بل كان الموضوع أكبر... البيت الذي يوجد به فتاة يكون ضخما من الحب حتى وإن صغُر.. ما بالك لو كانوا خمسة، حب ضخم يوزع بسخاء على الكوكب ويزيد.. تسود فيه المنازعات والضحكات والسهر في منتصف الليل.. ويكسو اللون الوردي على الجدران والدمى تتناثر بكل مكان، لمة العائلة، تحضير الطعام مع الوالدة، صنع القهوة للوالد، استقبال الجارات، وصنع الحفلات والفساتين والشعر الطويل..
كانت الكبرى فرحته الأولى، ونالت من الحب ما يكفي لتكبر ويكبر الدلال معها، وكلما واجهتها مشكلة بسيطة إلا وأتت لوالدي باكية تشتكي؛ وما كان بدوره إلا أن يرفعها عاليا صغيرة محمولة وكبيرة بالكلمات، فكانت تشعر بلذة النصر وتروي ظمأه بكل سخاء "أروى"، هي أمي بِقلبها ومستشارة عزيزنا أبي.. ضحكته الثانية كانت الحظ الأوفر من الأسماء حملت وطنا بأكمله "فلسطين"، إلا أنها دائما ما كانت تتميز بخوفها المستمر من كل الأشياء، وبكائها على أبسط الأسباب، وخطواتها الواثقة نحو المستقبل، وتفننها بصنع الأرز خاصتها لتتباهى به أمام والدي ..
ضحكته الثالثة متميزة في كل شيء؛ بشقاوتها وعنادها وحتى ثرثرتها، وتكتسيها البراءة والطيبة وابتسامتها وصنع النكت في المنزل؛ فكانت "آية" من الحنية والجمال لتصنع فراغا لدى والدها حين تغادر المنزل.. ضحكته الرابعة الشقية "راما" ترمي بكامل المسؤوليات على من هو أكبر منها، كثيرة التملل والضجر والعناد، إلا أنها تقف مع والدي في كافة الأمور وتكون له عكازا ومناصرة له.. وضحكته الخامسة وحصته الكبيرة نور على نور " ضياء " كان لها النصيب الأكبر من كل شي، وكيف لا وهي على اسم جدتي، تَفوح بها حركاتها الشقية تمشي واثقة ورافعة رأسها قائلة: "بابا ما بحكيلي لا" ...
كقطعات من الجنة على الأرض وحوريات المنزل، .. ما لبث الزمن يمر، إلا وزفت اثنتان إلى عرس أبيض وسط دموع الوالد، ويلملم الآن السهرات كل حين. هن الأمهات الأخوات العاملات المضحيات المربيات القويات الطبيبات والمثابرات. هن السند والجدار المتكأ عليه.. ألوان الطبيعة.. لا تدري لكم من الحب يتسع قلبها.. هي أمك وأختك وابنتك.. هي الروح لهذه الأرض ونجوم السماء.. هن اللحن والنغم العذب.. الرقي والطيبة، زهرات تشرين ومطر أيلول.. صانعات المجد أينما كن.
لا أدرى كيف يمكن لوجوهكم أن تسود حين يبشرونكم بفتاة.. ليقبل على البيت السواد والهم، وتمشي متثاقلا تجرك الخيبة، وأنتم لا تعلمون أن لمسة من أيديهن ترفعكم عاليا.. أصيلات مثل الفرس تقودك بعيدا عن الجرف.. هن لا حراما ولا لزاما عليك، بل هن الحياة لك في مكبرك والدواء لدائك.. أنت من تحدد مظهرها وقيمتها.. أنت من تجعلها صالحة وبارة.. أنت من ترفع من قدرها.. أنثاك هي أم وسند لغيرك.. أنثر عمرك رمادا إن لم ترزق بفتاة.. عمرا مهدورا بلا كعك، وقهوة صباحية أو حتى قبلة على جبينك.. هن عطور في قوارير وإن جار الزمن وكسرت نثرت مسكا عطرا.. لا هوان ولا ضعف في عزيمة لديها.. تبقى طفلة وإن أطبقت المائة عام.. تجيء إليك من أبعد مكان لاهفة الحنين شوقا إليك..
كسراب الحمائم بيض وحور عين، نقيات كسكر أبيض في مر هذه الحياة. فألمس السماء حينَ يبشرونك بفتاة.. وزفها جنينا ضاحكا مستبشرا إلى حين تَكبر وألبسها ما يطيب لتلبسك تاج الوقار في الدنيا وتغلق بابا لهيبا في الآخرة.. وكن لها بالحب عنوانا، فأنت فارسها ومخلصها، وأعرض ما قيل عنها من عار.. فإنهنّ زهورا فاسقيهن بعطفك يظلن مسكا أينما حلوا وأينما أنت تكن .
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة