اسطنبول
سلمان العودة..الحرية المغبونة وإنسانية الإسلام
حجم الغبن الذي يجتاح صدر، كل ذوي غائب مظلوم سجين، أمرٌ طبيعي مستحق، لكنه في حالة الظواهر العالمية الفكرية أشد قهراً، خاصةً حين تكون هذه الظاهرة شخصية، ولدت في توقيت العالم الجديد، واسئلة الحيرة والظلم الواسع، الذي تختنق به الكرة الأرضية، ويكون العالم الجنوبي وكالعادة هو الضحية، منذ صعود النظام الدولي، بعد الحرب العالمية الثانية.
ويزيد الألم، حين تكون هذه الضحية، منبر روح وعقل وتفاؤل، وإشراق إنساني، وجسور تنشر مفهوم التضامن الإنساني، باسم الإسلام، وموازين العدالة بين الشعوب الإنسانية، وتعيد تجديد معنى الإسلام، كمهمة تاريخية، تعيد جدولة الخطاب الروحي، الذي جاء به الوحي كدين حياة، ومهمة عمران للأرض، وفهم رقيق ورفيق، بالنفس الإنسانية عموماً، وبالمسلمين المعذبين في الأرض، وبالأبرياء من كل دين والمدنيين من كل ملة، فيهدى اليه بصدق الرأي وطيبالقول.
ويشير له بابتسامة فأل متجددة، قد أحاطت بمعنى الإسلام وكنزٌ من أسراره، وفتح عليه فيه، فاصطف الملايين ومن خلفهم عشرات الملايين، من المسلمين ليعيدوا فهم الحقيقة، ووعي الجواب ها أنذا الإنسان، الذي تؤمن روحه بخالقها، وينهض جسده بعمران خليقته، ويحرث هذه الأرض لسعادة البشرية، كان ذلك أساس رئيسي لفلسفة الغائب الحاضر سلمان العودة.
وهنا حين نعرج على مظالم العالم الجنوبي، ونقرنها بالموقف الدولي الأمريكي، فيما قامت به السلطات السعودية، من عمل فادح ضد الحريات، وحق الشعوب والأمم، والأسرة الإنسانية، بالسماع والأخذ وبالفهم، لفلسفة التجديد الإسلامي لنجاة الإنسان، ونجاح تعامله مع الآخرين، أياً كان أولئك الآخرون، ما دامت القاعدة، هي السلم الاجتماعي، وتنظيم معارف الدعوة القرآنية، (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
فنحن ندرك تماماً، أن ما جرى من اعتقالات واسعة في المملكة، كان متوافقا ومتطابقاً، مع جولة العلاقات الجديدة لليمين العنصري المتطرف، المتمثل برئاسة ترامب الأمريكية، مع الدولة السعودية وعهدها الجديد، إنها مفارقة كبرى، ففي الوقت الذي تبحث فيه الإنسانية، سبل العدالة والسلام الاجتماعي، يعتقل أبرز شخصية، ذات حضور ومكانة، في بعث هذه القيم العادلة، بين المسلمين وبينهم وبين شركاء رحلة الأرض.
ولذلك فإن الأنباء المقلقة، عن صحة الشيخ سلمان العودة، في سجنه المعزول وتغييب أي خبر عنه، وتناقل المسيئين له، مهمات نشر مروعة عن صحته والتبشير بوفاته، هو حدث عالمي مخيف، يفترض أن تتحد فيها كل مشاعر النبل والعدالة، لإنقاذ هذه الشخصية العالمية، التي نرجو أن تتجاوز وضعها الصحي الحرج، الذي وصل للعائلة، عبر شخصية أطلعت على وضع الشيخ العودة.
لقد انتقل الشيخ العودة، عبر أطوار مختلفة، كما هي رحلة المفكرين، وبلغ منتهى ما يصبوا اليه من رحلة فكر عالمية، للتبشير بخطاب السلام الإسلامي، للنفس والروح، وتباشير الإحسان الإلهي لها، لتُملئ روحاً وحيوية، وكان الناس أمام برامجه، أو كتبه، أو مواقع التواصل الاجتماعي، يحتشدون في كل لحظة لتستمع أرواحهم، وتتنور عقولهم بشربة فكر، وجرعة رأي، بيدٍ تترفق بهم، وبأسئلة الإنسان المتعب في هذه الحياة.
لقد اختار الشيخ العودة لختام رحلته، بأن تكون منبراً للحرية وكرامة الفرد، وأدرك حجم ما تعرّض له، خطاب الدين الإسلامي الحنيف من تشويه، بل إن هذا الزمن، تحوّل في بعض مساراته ليكون النظام السياسي حاضناً، لدينٍ مصنوع، برعاية مستبد وشراكة مغالي، مدنيٌ أو مسلح،ففتن الناس وتاهت عقولهم.
فقرر الشيخ، أن يُفرغ حياته لمهمة البلاغ الاجتماعي العالمي للإسلام، ذلك ما كان يدور حوله في حديثه معي، لقد آمن الشيخ العودة إيماناً كاملاً، بمفهوم الحقوق الدستورية للشعوب، والعدالة الاجتماعية، وأنها من صلب مفاهيم العدل الإسلامي، وأيدها في بلده، وأيدها في الوطن العربي، وأصر الا يتراجع عن هذه الحريات، وإن انشغل بخطابه التربوي وركز عليه.
وقبل ذلك كان الشيخ يجمع مناطق وطنه، ألستنهم المختلفة، الوانهم أعراقهم وأفكارهم المتعددة، حتى بعض من توحش فكره، ولم يرق له منهج الشيخ، لكنه ظل يعتقد، أن سلمان العودة يجيب على أسئلة الجموع الحائرة، والتي لا تجد في أسواق الوعاظ المرتزقة دواءً، وتصدم عند كل حين، بالبغي على الإسلام وتوظيف مسماه ضد رسالة الله والأنبياء، فيتناقص التطرف عنده حتى ينضم لكوكب الشيخ العودة.
وكان صوت الشيخ سلمان، سوط كرامة مهذب، يواجه خطاب الكراهية، ضد الحق الإنساني، والفردي للاختلاف، ومن يملأ الدنيا ضجيجاً، ضد مساحة حق المسلم، في الحياة المدنية، التي هي من فطرة الله للخلق، ليعيشوا بمتعة وسلام، والله مولاهم هو من يحاسبهم، وليس لأحدٍ حق أن يمنعهم ما فسح الله لهم في أرضه، مع اختلاف مذاهبهم، وعاداتهم.
ولسنا نقول إن هذا الخطاب كان محصوراً، في الشيخ العودة، بل هناك شركاء نهضة فكرية قبل وبعد، لكن الشيخ العودة، سهّل هذه المفاهيم، لكل إنسان مثقف أو بسيط يريد الوعي، وألقاها اليه بين مدرجة الحياة، ليصبح على تويتر أو سناب شات، بطلعة الأمل الجديد.
فيبتسم مع الشيخ في روحه الفرحة، ويتفاءل مع حفزه الدائم لصناعة الحياة، ويتعمّق فكره، في فهم الإحسان بين الناس وأنفسهم، فترتاح نفسه في المشرق والمغرب العربي، والمهجر، وهو مع ذلك يقوم بمهمة موائمة وطنية، لكن بلغة لا تخضع لا الابتزاز، ولا للمشارطة القمعية، فتربط روحه العذبة بين أقاليم البلاد السعودية المختلفة.
ولإيمان الشيخ بأن خطاب الروح الاجتماعي، بات ضرورة في ظل التصحر الديني، والاستبداد السياسي، والتيه الذي يتخطف الشباب بين الغلو المسلح، والإلحاد المستفز لهم ولمجتمعاتهم، والتوظيفات العديدة داخليا وخارجيا، وحاجة أرواح الشباب لأن يُسمع لهم، ويبيحون بخواطرهم،ويدركون في نهاية الأمر، أن هذه الحياة مهما بعدت وحملت من مشقة، فإن رعاية الله ولطفه، وحبه وإحسانه، هي رافعة لهم، قبل دار الجزاء، التي يُبسط فيها الحساب مقرونا بالرحمة الكبرى.
وبالتالي أمام صلف العيش وجدل الفوضى الفكرية، والضغط الشرس على الحقوق الفردية والدستورية، الذي انتشر في الوطن العربي، احتاج الناس الى مهمة ورسالة الشيخ العودة، لأبناء اللسان العربي، ولكن عبر دعوة عالمية، فكان يتمنى أن يوقف حياته لها، ولذلك قرر منذ مدة أن التفرغ لهذه المهمة، تحتاج أن يستقل عن ميادين العمل السياسي كلياً، دون أن يهدم شخصيته، في أن يكون مبتذلا للاستبداد، أو أن ينطلق لسانه لتزكية أي مشروع أو قانون أو سلوك، ضد الحريات.
ومع ذلك لم يسلم الشيخ، فشعبيته الكبرى، وهي شعبية لا تقارن بمسار الاصطفاف عند الخطابات الوعظية الموظفة، وإن بقي لدى هذه الخطابات مساحة تحتاجها الروح المسلمة، لكن سلمان العودة كان الله يهدي به الروح والعقل، ويترفق بصدق مع كل انسان، فينتقي كلماته وأحاديثه،بعزيمة مخلصة، أن هذه الأحرف يبعثها للناس كل الناس.
ولا يعني ذلك سلامة الشيخ من الخطأ، أو الاجتهاد غير الموفق، في حياته الفكرية، ولكنه كان يصحح بكل تواضع، ويقترب من الله ومن الناس، وتهتف زوايا دعوته الاجتماعية بمعاني الحرية المختلفة، من قرار الانسان الذاتي، حتى حقه الأصيل في العهد السياسي.
إننا اليوم نقف أمام حملات تشويه الشيخ العودة، عبر مفارقة مهمة، فالحملة التي بدأت منذ زمن، وكانت تسعّر قبل اعتقاله الأخير في مواسم متعددة، يُستخدم فيها تيار يزعم لبراليته، وهو رديف كلي للاستبداد السياسي المحلي، وللمشروع الأمريكي المناهض لحرية الشرق واستقلاله، وتيار وظيفي جامي نال من الشيخ العودة بكل عدوانية وقبح.
وباسم الأمن السياسي المزعوم أوذي الشيخ كثيراً، وساند العصابة الجامية، تيار آخر، استخدم التحفيز السلفي لمحاصرة الشيخ العودة والطعن فيه، فهم جميعاً اتحدوا مع القرار السياسي المحلي والخارجي، لقمع خطاب الانسان الإسلامي الذي بشر به الشيخ العودة.
إن طبيعة المنبر، الذي يسعى لحمل ذاته وخطابه، بعيداً عن التوظيفات ومداهنة الاستبداد، لم يزل يخطط له ويتعقب، ورغم أن الشيخ سلمان ابتعد عن معارك جدلهم، الا أنه، كان خطة لهدفهم المتطرف، فأن يستقل الخطاب الإسلامي باسم العدالة الاجتماعية، وحقوق الروح الإنسانية، هو خطر حسب ما يظن هؤلاء على مشروعهم، وشراكتهم مع الغرب المتطرف.
أما البغاة المتطرفون باسم الدين، وباسم محاربته أحياناً، فإن من السهل اختراقهم، وتجيير ثقافتهم المنحازة المتشددة، لصالح المشروع السياسي، ولذلك استهدف العودة لعلامته الفارقة.
إننا نبعث رسالة اليوم، الى أصحاب القرار السعودي، أن يدركون حجم ما يعنيه استشهاد الشيخ سلمان العودة، لا سمح الله في محبسه، وحجم القهر الذي يشعره الناس، في ظل تغييب أي خبر أو تأكيد أي رعاية طبية مأمونة له، وهنا مساحات افتراق كبرى، بين خطاب العدالة والروح الإسلامية، وبين موقف السلطات.
لكننا نعيد الدعوة لإطلاق الشيخ، الذي قرر أن يخاطب شباب أمته والعالم، بخطاب البلاغ الجديد، لنشر العدل بين العالمين، والذي هو مهمة ندب اليها الرسول الأمين لكل جيل، وأن يسارعوا للإفراج عن الشيخ، ونقله في عناية طبية خاصة ترتضيها أسرته، قبل أن يفوت أي زمن للتصحيح، ويُعلن فيهم قول التاريخ المبين.
المصدر : الجزيرة نت
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
نبذة عن الكاتب
اسطنبول
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة