أعباءٌ غير مرئية
الساعة الثامنة مساء إلا بضع دقائق، أشعر بحرقة في عيني وثِقل في أجفاني وألم يتمركز تحت الرقبة وبين الكتفين، البروفيسور يغدو ويروح بخطى ثقيلة على امتداد اللوح الأبيض الذي يعكس إضاءة القاعة الدراسية المبالغ فيها، وفي نبرة صوته شغف واضح لإنهاء آخر محاضرة يلقيها على طلبة الدراسات العليا لهذا الفصل، على يميني أم لطفل في الثالثة من عمره، ومن خلفي أم مبتدئة لرضيع صغير، لنجتمع ثلاثتنا على صفة الأمومة دونا عن بقية الطلبة. باستبشار وضع المحاضر قلمه على الطاولة وقال "هذا وأستغفر الله لي ولكم"، معلنا الخِتام، هممت بتثاقل لأخبره أنني وددت لو كان لديّ متّسع من الوقت للاستفاضة والتعمّق أكثر في المراجعة الأدبية التي سلمتها له اليوم، فنظر إلي قائلا: "إن كنتِ تَدْرُسين مادّتين، فأنا أُدرّسُ خمسة، ولا مقارنة بين ما عليّ من ضغوطات بما عليكِ".
استكملنا النقاش باختصار وشكرته، واتجهت عبر البوابة غير آبهة بمواجهة برد الشتاء القارص، تاركة برودة الهواء تتسلل إلى صدري لتطفئ حرقة اشتعلت فيه للتوّ، وشيئا من الامتعاضِ يسيطر على أفكاري ويطلق لها العنان لتثرثر كحشد صغير من النساء اجتمعن على فنجان قهوة وقت الصباح، لم تفلح رزانتي هذه المرة في الحيلولة دون ظهور الجانب المتمرّد في تصرفاتي، ما أن وصلت مصفّ السيارات حتى انتابتني رغبة في اختلاس النظر إلى البيوت المجاورة، النوافذ مغلقة بإحكام والهدوء يعمّ الأرجاء والأرصفة تتوارى خلف سلسلة من السيارات المصطفة بمحاذاتها.
برودة الجوّ لم تمنع حارس العمارة من الاجتماع برفاقه على قارعة أحد الأرصفة، راودتني كلمات المحاضرِ مرة أخرى: "إن كنتِ تَدْرسين مادّتين، فأنا أُدَرّسُ خمسة" ابتسمت وترجلت من السيارة، مرّت قطّة بجانبي وتسللت إلى أسفلها لتنال قسطا من الدفئ، اقتربت من باب البيت، ضحكات الأولادِ عالية، تمهلت لحظة لأسترق السمع أكثر، الصغير يركض خلف الكبير ويقول له سأنال منك وأهزمك، والكبير كالعادة لا يراعي فارق السن البالغِ عشرة أعوام بينهما ولا يُبدي أي استعداد لمجاراته ويعامله كند له.
طرقت جرس الباب، فتحاه لي، الصغير: "ماما أشعر بالجوع، هلا تعدين لي العشاء،" قلت له أمهلني دقائق، التفتّ إلى الأطباق المتسخة المتراكمة في المطبخ ببرود، غضضت الطرف عنها واتجهت إلى غرفتي لتغيير ملابسي، بجانب السرير مجموعة من الكتب والأوراق، جزء منها للعمل، والجزء الآخر للدراسة، وبعضها يتعلق بالأنشطة اللامنهجية التي يجب عليّ متابعتها لإشراك ابني الصغير فيها.
فوق تلك الكومة ورقة بقائمة المهام المعدّة بعناية كمحاولة يائسة للتنسيق بين مهام "البيت" و"الدراسة" و"العمل"، في خلفها قائمة بمشاريع حالية ومستقبلية أخرى، وفي الأسفلِ بعض الأمور الحالمة الوردية التي قررت أن أقوم بها لتضيف نكهة جميلة إلى هذه المنظومة المتجهّمة من الأعباء، كاستكمال تعلم العزف على الكلارنيت والكتابة الأدبية والرياضة، التي شدد الطبيب في آخر زيارة له على ضرورة تخصيص وقت لها يوميا لتحسين الدورة الدموية.
هو ذاته جانبي المتمرّد الذي دفعني للجلوس ومشاركتكم شيئا من امتعاضي بدلا من نيل قسط من الراحة لاستئناف المواجهة مع ساعات الفجر لكتلة صعبة المراس من الأشغال، التي يزاحمُ بعضها البعض لتنال مساحتها الخاصة في اليوم والليلة، خصوصا في هذه الفترة المكتظّة بتسليم الأبحاث وتقديم الامتحانات إلى جانب المهام اليومية، "البيت" و"الدراسة" و"العمل".
حقيقة لا ألوم البروفيسور، هو فقط نطق بما يجول في العقل الباطن لكثير من أرباب البيوت الجهابذة، الذين يقومون بعملهم على أكمل وجه، ثمّ يُعاودون الارتماء في أحضان الأريكة في مشهد دراميّ يتكرر يوميا، يوحي بما قاسوه خلال العمل خارج المنزل وبضرورة قضاء ساعات ما بعد العمل مرورا بالمساء وحتى الصباح، في راحة وخمول وعينين شبه مقفولتين أمام التلفاز أو الهاتف واستقبال طبق من الطعام وإدبارِ كأس من الشاي، رجل المهمات الصعبة هذا لا ينظر لأمور تقوم بها المرأة على أنها تستحقّ المسمّى المهني ذا الوزن الثقيل "مهمات"، أو على أقلّ تقدير تسقط من ذاكرة الرجل سهوا حتى تحين اللحظة المعهودة التي تنفجر فيها المرأة مذكرة إياه بما تقوم به من غسيل أكوام الملابس وطيها وكيها، وإعداد الطعام وتنظيف المنزل ورعاية الأولاد ومجاراة تقلبات مزاجهم تارة والاحتدام معهم تارة أخرى، ثم اللقطة الحاسمة المتمثلة بالتأهب لاستقباله كأن دوامة من هذا كله لم تكن.
لم أذكر بعد ما تمرّ به المرأة العاملة في يومها ومحاولتها المتأرجحة في تحقيق التوازن بين عملها وأسرتها، أما تلك التي تدرس إلى جانب هذا كله فلها الله، سأدع هذا المقال لمقام آخر، وسأكتفي بإزالة البقعة عن القميص الذي يرغب ابني في ارتدائه غداً وإصلاح دراجة ابني الصغير ليستمتع بها في إجازته، والتفكير في كيفية اختصار المهام المطلوبة مني في العمل ليتسنى لي دراسة مادة المحاسبة الإجبارية التي فرضت نفسها على خطتي الدراسية وأنا خريجة الآداب التي تفكّر مليّاً قبل إعطاء ناتج جمع رقمين اثنين في منزلة الآحاد، ألقاكم على أمل أن أستبدل كومة الأوراق والكتب وجهاز الحاسوب المتنقل إلى جانب السرير بفازة وشمعتين.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن