قصة التِّيه ومعالم طريق الخلاص
خرج موسى وقومه من مصر فرارا من فرعون وبطشه، فأدركهم الطاغية وجنوده عند طلوع الشمس، فكان البحر من أمامهم، والجبال عن أيمانهم وشمائلهم، والعدو من خلفهم، فدَبّ الفزع، وقالوا {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فقال لهم موسى بلهجة الواثق من وعد ربه {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
جاء الأمر الرباني بأن يضرب كليمُ الله البحر، فضُرِب لهم طريقا في البحر يبسا، فلما جاوزه ومن معه، أتبعهم الطاغية الذي بقي على غطرسته وغروره رغم المعجزة، فسلك الطريق ذاته، فحدثت المعجزة وأطبق الموج على الظالمين، فهلكوا، وأنجى الله فرعون ببدنه ليكون لمن خلفه آية.
كانت هذه الآية العظيمة والمعجزة الباهرة، كافية لأن يرسُخ الإيمان في قلوب بني إسرائيل رسوخ الجبال، لكنهم قد غلبتْهم طبيعتهم المتمردة، فما إن مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، حتى قالوا لنبيهم {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}.
طبيعتهم التي وصفها صاحب الظلال بـ”المنحرفة المستعصية على التقويم؛ بما ترسب فيها من ذلك التاريخ القديم”، نعم إنه تاريخ المذلة والعبودية في مصر التي خيمت عليها الجاهلية الوثنية والاستبداد والبطش، فأُشربت قلوبهم الذل، وصارت طبيعتهم مائلة إلى قساوة الحس وخور العزيمة، فما يقرُّ لعقيدة التوحيد في قلوبهم قرار، إنْ هي إلا فتنةٌ تُداهمهم حتى ينكصوا على أعقابهم.
وبعد أن جاء الأمر الإلهي بأن يدخلوا الأرض المقدسة، كان ردهم على موسى يحمل من سوء الأدب وضعف القيم والأخلاق شيئا عظيما، فقالوا {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ}، ثم أمعنوا في سوء الأدب مع الله ورسوله قائلين {يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}.
وهكذا تجلّت رداءة أخلاقهم وتشوّه منظومتهم القِيَميّة، فجاء العقاب {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
عُوقِبوا بالتيه في تلك البقعة، كلما حاولوا الخروج منها وجدوا أنفسهم قد عادوا إلى المكان الأول، محبوسين في الصحراء، لا يستطيعون إلى الفرار منها سبيلا.
دخل بنو إسرائيل التيه إذن جرّاء ضعف العقيدة وتشوه منظومة التصوّرات والأفكار، ودخلوا التيه أيضا بضعف منظومة القيم والأخلاق.
لقد وضع القرآن أصلا في الجزء الخاص منه بالقصص يتمثل في قوله تعالى {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}، أي أنها ليست للتسلية وإنما للعبرة والاتعاظ، ومن ثمّ ينبغي أن يتدبر المسلمون تلك القصة في سياقها ومآلها، ويعرضوا واقعهم عليها، فذاك هو مرام القرآن.
لقد دخل المسلمون بدورهم ذات التيه وبنفس الأسباب، فهم تائهون في معتقدهم وتصوّراتهم وأفكارهم وأخلاقهم وسلوكياتهم، فإذا راعك الكلام فتريّث في ردّه، حتى ترى واقع المسلمين من تلك المفردات.
كم عدد المسلمين الذين يمارسون عادات وثنية في لباس عصري، كم عدد الذين يستغيثون بالأموات ويعيشون على أوهام بركات الأضرحة؟ وكم عدد الذين يعتقدون بأن للكون أقطابا يُدبّرونه ويُسيّرُونه؟ وكم عدد الذين يفنون حياتهم وراء ضرب الودَع وقراءة الكف والفنجان؟
كم عدد الذين تأثروا بالفكر العلماني وصار الدين لديهم محرابا وتسبيحا وحصروا المنهج الإسلامي في علاقة روحية بين العبد وربه، دون أن يكون شاملا لكل مناحي الحياة كما أراده الله؟
كم عدد الذين تأثروا بحملات التشكيك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستجابوا لدعوات الاقتصار على القرآن دون السنة التي هي وحي من عند الله؟
كم عدد الذين عطّلوا صفات الله كما عطلوا حُكمه؟ وكم عدد الذين يرون أن هذا المنهج لا يصلح لهذا الزمان وأن مكانه في العصور الأولى بين خيام العرب؟
ثم انظر إلى منظومة القيم والأخلاق وقلِّب بصرك فيها، لتقف على حجم التردّي والانحطاط، تفسُّخٌ وشذوذٌ وعريٌ وأنانيةٌ وعدوانيةٌ وتقليدٌ أعمى لموضات الخلاعة في الغرب، وفسادٌ في الضمير، وتفكُّك في العلاقات الاجتماعية، وضعفٌ وخور، وقلةُ أمانة، وجشع…
سيل من السلبيات نتج عنها ضعف المبادرة، والعزوف عن العمل والإنتاج، والانسلاخ من مسؤولية العمل للدين والأمة، حتى ضاعت البلاد والعباد، وصرْنا أضْيعَ من الأيتام على مائدة اللئام.
فما هو طريق الخلاص لأمة الإسلام؟
نرجع إلى قصة التيه ففيها العبرة ومعالم هذا الطريق، فقد ظلّ القوم في التيه أربعين سنة، تربّى فيه جيلٌ جديد على العقيدة السليمة وعلى الأخلاق السامية، فاخشوشنوا وودّعوا حياة الكسل والدعة.
مات هارون، ومات موسى، عليهما السلام، وحمل راية التربية من بعدها يوشع بن نون، حتى كان الجيل الذي دخل بيت المقدس وفتح الله على يديه.
إن قصة التّيه تحمل في طيّاتها ضرورة التربية الجادة على العقيدة السليمة وقوة الأخلاق، وهما قارب النجاة لهذه الأمة.
لقد ربّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على عقيدة التوحيد حتى صار الإيمان في قلوبهم كالجبال، فهان عليهم كل شيء من أجل دينهم وأمتهم، وكانت التربية على العقيدة هي محور الاهتمام في الفترة التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، وبالعقيدة انطلقوا برسالة الإسلام الخالدة، ترتعد لهم فرائص الأكاسرة والقياصرة، ينشدون إحدى الحسنيين، يصلحون الدنيا بالآخرة.
ورباهم الحبيب صلى الله عليه وسلم على الأخلاق، فانظر يا ابن الدين، عدد الأحاديث النبوية التي تتحدث عن الأخلاق، وقبلها عدد الآيات التي تُحدّد الإطار الأخلاقي وتُبيّن مكارمها ومساوئها، وانظر معها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لترى كيف كان مثالا حيا للأخلاق السامية، فكان كما قيل عنه (خُلُقُه القرآن).
ربّاهم النبي على أخلاق الأمانة والقوة معا، فمع الصبر والحلم والكرم والوفاء…، تكون أخلاق القوة من الإيجابية والمبادرة وتحمّل المسؤولية، وغيرها من الصفات التي تُبنى بها الأمم وتُشيّد بها الحضارات، فالذي وطّد المدينة لمقدم النبي ونشَرَ الدعوة في أرجائها قبل مجيئه كان الفتى المُدلَّل مصعب بن عمير الذي كان أنعم شباب مكة، فحوّلته منظومة الأخلاق الإسلامية إلى بطل فذّ صلب ذي همة تُطاول الثريا.
إنها تلك المنظومة التي حوّلت بلال بن رباح من عبد حبشي يعيش في براثن الخوف من السادة، إلى فارس شجاع يأخذ بثأره يوم بدر من صنديد الكفر الذي أذله وسامه سوء العذاب (أمية بن خلف)، وبعد أن كان هملا خامل الذكر، خلّد الله ذكره بين الأنام.
لقد اتّصفوا بصفة الجُندية مع الله فاستحقوا وعده {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}، فما من سبيل إلا أن نكون جنودا، ومن سمات الجندي الطاعة والانضباط والتفاني في الخدمة.
إنها صرخة في وجه كل مُرَبٍّ، وأمام كل محضن، وإلى كل من يستشعر مسؤولية العمل لهذا الدين، لا خلاص لنا ولا نجاة لنا ولا خروج لنا من التيه إلا بتربية جيل جديد على العقيدة والأخلاق والإيجابية، تجعله في مصاف جند الله الغالبين، وهو الأمر الذي يتناغم مع السنن الربانية { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
ومِن ثَمَّ لا بديل عن إعلان أسلمة المعركة، فإذا كان أعداؤنا لا يُخفون مُنطلقاتهم العَقَدية وهم على الباطل، فمن العار أن يتخفَّى أهل الحق بعقيدتهم، فلتسقط الرايات القومية والنعرات العرقية وكل راية زائفة لا تُسمن ولا تغني من جوع، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر : هوية برس
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن