معاناة المتديّنات في المجتمعات غير المتديِّنة
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1325 مشاهدة
السؤال
تشهد المرأة المؤمنة في بعض البيئات صراعاً فكرياً كبيراً بين العلم والحياة، بين ما يقوله العلماء وما تَشهده أرضُ الواقع من صعوبات في التطبيق والتنفيذ وأخصّ بعض البيئات بالذكر، لأن هذا الأمر لا ينطبق على كل مؤمنة، فكثيرات من النساء يَعِشن في جو إسلامي تُطبق فيه أحكام الشريعة بشكل واسع مما يسهّل عليهنّ الطاعة والتنفيذ.
بينما على عكس ذلك نجد أُخريات تعانين من هذا الصراع وتشهدن آثاره، فإذا بإحداهن تعلم من القرآن والسنة وأقوال الفقهاء وجوب غضّ البصر وحرمةَ الاختلاط والخَلوة ومع ذلك تضطر إلى الخروج من بيتها صباحاً لتركب الباص المزدحم بالرجال المسلمين الملتزمين بل أيضاً برجال مسلمين على الهُوية، لا ينظرون للدين بمنظارها ولا يرون في الاختلاط والخلوة بأساً، مما يشعرها بأنها، منافقة تدّعي الإيمان ولا تطبّقه، تعلم أحكام الإسلام ولا تنفّذها، ومما يجعلها أيضاً تخشى أن تكون من هؤلاء الذين قال فيهم الله عزّ وجلّ:يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كَبُرَ مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( الصف: 2-3).
ومن هنا يأت سؤالها التالي: هل يا تُرى ممكن أن يكون الحل بترك التعلم خشية المزيد من العلم الذي قد يصبح سلاحاً ضدها يوم القيامة؟ أم يا تُرى ممكن أن يكون الحل بترك عملها وبملازمتها بيتها وعُزلتها عن المجتمع الذي لم يعد ذاك المجتمع الذي يهتمّ بالجالسات في بيوتهنّ ولا يؤمنّ متطلباتهنّ؟ ما عساه يكون الجواب أرجوكم الإفادة عن هذا السؤال بالجواب الشافي، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين أفضل الجزاء.
المعالجة
أولاً: إن هذا البُعْد من أبعاد هذه المشكلة الخطيرة ليس هو البُعْد الوحيد وإن اقتصرت السائلة الفاضلة عليه، وذلك ناجم عن التداعيات القاسية والحادة التي نتجت عن انهزام الأمة الإسلامية وتغربيها عن ثقافتها وتضييع هويّتها وسلخها عن تاريخها وحضارتها والإمعان في إذلالها وتخلّفها الحضاري بدل من أن تكون شاهدةً شهوداً رسالياً وحضارياً على البشرية جمعاء كما أمرها ربّها وكذلك جعلناكم أمّة وَسَطاً لتكونوا شهداء على الناس .
مشكلة المشاكل: لابد من أنْ نلتفت إلى أنّ منبع هذه الأخطار والأزمات والتداعيات هو تقزيم مفهوم الدين في فكرها وواقع حياتها ليقتصر على أداء العبادة بمفهومها الضيق ليس إلا، وبالتالي عدم إدراك فظاعة جريمة حصر تطبيق الشريعة في مساحة محدودة تسمى الأحوال الشخصية، مع فساد عريض في ساحات المجتمع المتنوعة وحتى في المؤسسة التي تحكم بهذه الأحكام في أغلب بلاد المسلمين. وكل ذلك مرسوم ومقصود لئلا تُشرق صورة الإسلام في شموليته وحاكميته وفي فاعليته الحضارية ووظيفته الرسالية من جديد في أمل المسلمين.
وظيفة التجديد ومهمة الإصلاح: من هنا فإن جذور المشكلة خطيرة، وبالتالي فإن وظيفة التجديد ومهمة الإصلاح تتوازيان معها ولكنْ من حيث الأهمية والعظمة، وهما المهمتان اللتان تقومان بهما طائفة الحق الموزعة فئاتها في ساحة الوطن الإسلامي العريضة:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مئة سنة من يجدّد لها دينها" رواه أبو داود في سننه من رواية أبو هريرة رضي الله عنه والحاكم في مستدركه ونقل الإمام السيوطي في رسالته "التنبئة بمن يبعث الله على رأس كل مئة" اتفاق الحفاظ على صحة الحديث.
وقال أيضاً – كما في الحديث المتواتر عن عدد من الصحابة -: "لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين- وفي رواية: لا تزال من أمتي أمة قائمةٌ بأمر الله- حتى تأتي الساعة".
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء" رواه مسلم في صحيحه وغيرُه وهو حديث متواتر أيضاً عن عدد من الصحابة، وجاء في تحديد: مَن هم الغرباء؟ روايات متعددة تتكامل في رسم صوة صفاتهم منها:
1. أنهم الذين يَصلحون إذا فسد الناس.
2. أنهم أناسٌ صالحون في أناس سوءٍ كثير مَنْ يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
3. يُحيون سنتي من بعدي ويعلمونها عباد الله.
ولسان حالهم في درب التجديد ومَيْدان الإصلاح تحقيق الواجبات التي حدّدها الشاعر:
فلا بُدّ من رأبِ كل الصدوعِ وجَمْع الصفوف ودَرْء العلَلْ
ولا بُدّ من قَصدِ ذات الإلهِ وحَشد القوى ليصحَ العملْ
وبعد هذه المقدمة المهمة أعلق على بعض عبارات الرسالة وأجيب على كل الاستفسارات الجزئية الواردة بعون الله:
أولاً: إن هؤلاء المؤمنات اللواتي يتعرّضن لهذه المشكلة وهي التناقض بين العلم الذي يعرفْنَه وبين التطبيق هنّ- مع الحرص على إرضاء الله سبحانه وعلى الإخلاص في العلم والعمل وعلى تطبيق ما يستطعن من أحكام وتعاليم الإسلام وَفق مفهوم الاستطاعة الشرعي وسُلّم الأولويات التخصّصية والاجتماعية كما يُرتّبها الشرع-: من طائفة الغرباء الممدوحة إن شاء الله تعالى.
ثانياً: لا أظن أن أي مسلم أو مجموعة- في بلدنا لبنان وفي كثير من بلاد المسلمين – ينعم أو تنعم في عصرنا بالعيش في جو إسلامي تُطبّق فيه أحكام الشريعة بشكل واسع. نعم تتفاوت البيئات والأسر في نسبة تطبيق الإسلام ولذلك يعاني الجميع وإنْ بنسب متفاوتة، ومن هنا فالكلّ يردّد أبيات الأمل الذي ينشُدُ التطبيق الإسلامي الذي يسمع لكلمة الله دون أي كلمة وتنطلق (الله وأكبر) من مآذن مساجده إلى المحافل في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والجامعات:
إلى المنازل من دين ومن خُلُقٍ إلى المناهل من علمٍ ومن أدب
إلى المساجد قد هام الفؤادُ بها إلى الأذان كلحن الخُلْد في صيبٍ
(الله أكبر) هل أحيا لأسمعها إن كان ذلك فيا فوزي ويا طَرَبي
ثالثاً: على الشابات المؤمنات اللواتي يعانين من قساوة المعاناة من آثار (الفصام النكد) بين ما يعلمنه من أحكام الدين وما يجدنه في واقع المجتمع أن يحافظن على الشعور بهذه المرارة لا للوصول إلى الانكفاء والعُزلة الحسّية عن المجتمع وإلى حالة الإحباط واليأس من أمل الإصلاح، بل ليكون ذلك منبّهاً دائماً إلى الخطر الموجود وإلى وجوب العُزلة الفكرية والشعورية لئلا تحصل حالة استرخاء تجاة الجوانب المتناقضة فيه مع الإسلام... ولكنها ليست العُزلة السلبية المُقعدة عن المجاهدة والمغالبة وإنما هي العُزلة الدافعة إلى الرغبة في الإصلاح والهمّة على الدعوة والدراسة لأوضاع المسلمين والتصميم على استنهاض الطاقات والعزيمة على إنجاح المشروع الإسلامي الحضاري.
وبهذا الشعور تنقلب المعاناة من الغُربة إلى أُنس، وطاقة حافزة على إرادة التغيير، وما أصدق كلمة العلاّمة ابن القيّم "في مدارج السالكين" 3/196: فهذه الغربة لا وحشة على صاحبها، بل هو آنس ما يكون إذا استوحش الناس... فوليُّه الله ورسوله والذين آمنوا، وإن عاداه أكثر الناس وجَفَوْه.
رابعاً: هذه الرؤية تتطلّب من كل مهتمّ بدينه الاستزادة من العلم الشرعي- بدل تركه- والارتباط الوثيق بكتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم وشحذ الهمّة على التطبيق قدر الاستطاعة، مع ملاحظة الفرق بين مسؤوليته - كأسرته ومؤسسته- وبين عدم مسؤوليته عما يمارسه المجتمع من المعاصي إلا قدر ما يحاول جاهداً تجنُبها دون أن يمنعه وجود هذه المعاصي في المجتمع من الدخول إلى مؤسساته ولكن بشروط:
شروط لا بدّ منها :
الشروط الفقهية:
1. إذا أمن الفتنة على دينه، سواء فتنة في الفكر والعقيدة أو فتنة الجوارح والسلوك.
2. أن يترجَّح تحقق مصلحة مشروعة وفائدة دنيوية المشاركة.
3. أن يتعيّن أن هذه المصلحة لا تتأتى إلا بهذه المشاركة.
4. أن لا يكون العمل نفسه محرماً، لضرورة التفريق بين الحرمة الذاتية والحرمة الإضافية، فمثلاً وسائل النقل أو الجامعات التي فيها اختلاط: الحركة فيها إضافية، بينما البنوك الربوية أو النوادي الليلية أو المؤسسات التي يُعظَّم فيها غير شرع الله وتُعبّد الناس لغيره: الحرمة فيها ذاتية.
5. أن يصاحب مشاركته التخطيط لخدمة الدعوة والعزم على الاجتهاد في الهداية إلى الله.
6. أن يستبق قرارَ المشاركة باستشارة أهل الرأي الناصحين واستخارة رب العالمين فقد ورد في صحيح البخاري عن الصحابي جابر قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلّمنا السورة في القرآن.
شرط خاص بالنساء: ثم هذه الشروط تعمّ الرجال والنساء ولكن يُضاف إليها بالنسبة للنساء- خصوصاً في موضوع العمل – أن تكون محتاجة للعمل في مؤسسة فيها اختلاط- مثلاً- لعدم وجود المُعيل أو عدم قدرته على إغنائها بالنفقة، وأن نأمن من الفتنة عليها، مع التزامها هي بالحجاب الشرعي والأدب الإسلامي وتجتهد في غض البصروالبعد ما أمكن عن الاختلاط، بالإضافة إلى شرط فقدانها العمل في مؤسسة أو وظيفة في مجال اختصاصها أو قدراتها يتوفّر فيها الجوّ الإسلامي.
التعويض بالصلة الإيمانية والجماعة الربانية
الارتباط بالجماعة:
ومع ذلك كله لا بد من التنبه إلى أن توفر الشروط الفقهية تلك لا تحمي المسلم من الفتنة إلا إذا حَرَصَ على الصحبة الصالحة والعيش مع جماعة تتعاون صادقة على تطبيق الإسلام والدعوة إليه مع الاهتمام البالغ بالعلم الشرعي والتحريض على الأعمال الصالحة، فتُعينه بذلك على دينه وتسدّده في أخطائه..
الاهتمام بالعبادة :
هذا من جهة ومن جهة أخرى على المسلم في هذا الزمن المملوء بالمفاسد أن يهتم اهتماماً مركزاً بالصلة بالله سبحانه وتعالى لتكون له زاداً يقوّيه على الطاعة ويحصّنه من الفتن: هذا الزاد يستقيه من ذكره الكثير لله عز وجل وتلاوته اليومية للقرآن الكريم وقوة إقباله بالدعاء إلى الله سبحانه في مختلف أحواله وتقلبات أوقاته وباللجوء إليه بالعبادة والمناجاة خاصة في الأوقات التي تصفو فيها نفسُه، وليستحضر قولَ التابعي مسلم بن يسار: ما تلذّذ المتلذّذون بمثل الخَلْوة بمناجاة الله عز وجلّ..
في سيرٍ حثيث إلى الهدف المنشود الذي تُسترخص من أجله كل العذابات كما قال الشاعر الداعية:
دربٌ سلكناه والرحمن غايتنا
ما سُمعنا قطّ في لأوائه نَدَمُ
نمضي ونمضي وإن طال الطريق بنا
وسال دمعٌ على أطرافه ودمُ
يحلو العذابُ وعينُ الله تلحظُنا
ويعذُبُ الموتُ والتشريد والألمُ
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة