الإيجابية بمفهومها القرآني
هل تساءلت يوما عن معني الإيجابية؟ اعلم أنه يتسلل للذهن سريعا المعني الشائع لها فور التحدث عنها؛ القيام من كل عثرة، مواصلة السير بعد كل فشل، عدم السماح لليأس بمساس أرواحنا أو للإحباط بالسيطرة على نفوسنا. جميل؛ لكن ما هو معني الإيجابية بمفهومها القرآني أو لنتساءل أولا هل ذكرها الشرع تحديدا القرآن من الأساس؟ سنجد عند البحث في المصحف والتعامل معه بطريقة على غير العادة! أنه تحدث عنها سريعا ومر بل إنه ركز الضوء عليها في أكثر من موضع لأكثر من قصةٍ لنبي سابق وبهذا تصبح الإيجابية بالمفهوم الذي يريده القرآن ترسيخه وجعله ضميرا عاما ووعيا مشتركا عنصرا أساسيا من عناصر خطابه التي علي أساسها سيتشكل عقل المسلم ووعيه قيد التكوين والذي سيكون له أثره البالغ علي شخصيته الجديدة.
نستطيع أن نحدد معني الإيجابية عند التعايش مع السياق القرآني الذي ذكرت فيه هذه القيمة وسنجد أنها تعني: المقاومة والمواجهة، تحمل مسؤولية الواقع ومسؤولية تغيره مهما كلف الأمر من تضحية وبذل حتي تكون هذه الإيجابية هي الفعل وليست رده. والآن لنقف مع بعض نماذج الإيجابية بالمعني المراد:
بداية من نوح عليه السلام الذي لبس في قومه عشرة قرون كاملة إلا خمسين عاما يدعوهم بمفرده إلى الله عز وجل ليلا ونهارا، سرا وعلنا رغم ما كانوا عليه من كبر وكفر حتى وصل بهم العناد درجة أنهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم وثيابهم على وجوههم تصغيرا من شأن نوح عليه السلام واستهرارا بمكانته كأنه يدعوهم لأمر تأباه الأخلاق!
لازالت أؤمن أن القرآن الذي صنعهم يستطيع أن يصنعنا شرط أن نتعامل معه كما تعاملوا معه وحينها فقط سنصل لروح القرآن وأسراره وسنستلهم من قيما وأدوات عظمية لإصلاح أنفسنا والواقع الذي نتحمل مسؤولية تغيره
مرورا بالخليل إبراهيم الذي وقف لقومه بمفرده آملاً أن تكون محاكمة عقلية ومناظرة منطقية بحتة يصلوا من خلالها لحقيقة دينهم الساذج وحقيقة دينه وذلك حين انتظر خروجهم للهو يوم عيدهم فهوى بمعوله محطما جميع الأصنام إلا أكبرهم ليكون ما أراد فكان اقتلوه أو حرقوه! لنجيه الله أمام أعينهم لكنهم لم يؤمنوا أيضا! كأنه ليست لديهم عقولا أو لديهم لكنهم لا يعرفون كيف يستخدمونها رغم أن الأمر كان واضحا جدا أنه خارج عن حدود وإمكانات البشر مما يدل على صحة كلام إبراهيم عليه السلام!
نهاية بيونس بن متي عليه السلام الذي خرج من قريته بمفرده دون مؤمن واحد على أسوأ الأحوال، خرج بمفرده فقط بعدما وجد أن لا داعي للاستمرار فقومه كأن أحجارا لديهم وليست قلوبا أو عقولا لذا قرر التخلي عن مسؤولية مجتمعه ومسؤوليته تجاهه فظن أن النجاة بالابتعاد عنه كلية فركب البحر ليجد نفسه هناك أعلي متن السفينة في البحر بعيدا عن أرضه وقومه محاصرا بنفس الأفكار والمعتقدات والقيم والعادات المستندة لمجتمع الجهل والخرافة الذي هرب منه سابقا! فإله ما يغضب لسبب غير معلوم وسبيل إرضائه نفس بريئة لا ذنب لها على الإطلاق. ضربوا السهام وأجروا القرعة ليحدد الحظ من سينال شرف إرضاء الرب الغاضب ليكون في النهاية نوح عليه السلام، فوجد نفسه هو ضحية تخليه عن مسؤوليته! ليمر بتجربة قاسية يفقه فيها معني الإيجابية بالمفهوم القرآني جيدا فيعود لقومه مرة أخرى فيؤمنوا ويتمتعوا إلى حين.
في كل هذه القصص التي من المفترض أن يكون للنبي فيها أسوة وقدوة من تجارب من قبله من الأنبياء نجد أن قيمة الإيجابية مركزة فيها بمعناها السابق. فلماذا إذن؛ لماذا كان القرآن حريصا على ضخ تلك القيمة باستمرار للنبي؟ إننا نستطيع الإجابة على هذا التساؤل إلا إذا علمنا كم أن الأمر كان معقدا للغاية. فالواحد منا يقاوم نفسه ويجاهدها فقط للتخلي عن عادة سيئة أو اكتساب طبع جديد، يقوم ويسقط ويأخذ منه الأمر وقتا طويلا غير المحاضرات والدورات التي تدعو للنجاح والتميز ثم نجد في النهاية أن عدد الناجحين أو المطبقين لما في هذه الدورات قليل جدا، فما ظنكم بتغير الدين الذي بتغيره سيتغير كل شيء تقريبا فأمور الحياة كلها من طقوس تعبدية، وأنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية تسبح بفلك الدين، ضف إلى هذا أن الأمر لم يكن مقتصرا علي جزيرة العرب والتخوم المجاورة لها بل إن المطلوب منه على وجه الدقة والتحديد تغير العالم أجمع! في وقت لم يكن معه إلا شيخ كبير وطفل صغير وامرأة! فكان من المتوقع جدا أن يدور بخلده سؤال منطقي جدا وموضوعي جدا: ماذا بوسع رجل واحد أن يفعل؟ وهنا كان نفس الخطاب القرآني الذي رسخ فيه قيمة الإيجابية تحدث معه بقمة الصرامة والحزم "وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ" الذي ذكرت خبره آنفاً.
عند نفض الغبار عن سيرة النبي والتعايش معها لمدة يسيرة سنجد أن النبي والجماعة الناشئة معه تشربوا هذه القيمة حد النخاع، فجاء في الأحاديث الصحيحة أن النبي فور تلقيه الأمر من ربه بالجهر بالدعوة صعد على الصفا ونادى بطون قريش لينذرهم بيتا بيتا وهذه كانت من الصدمات الكبرى على الملأ من قريش، عرض نفسه على قبائل العرب وهو يصيح بهم من يأويني أبلغ رسالة ربي، خرج إلى الطائف سيرا علي قدميه ليعود بنفس القدمين تشخب دما إضافة لعناء الطريق، يري أصحابه يعذبون بل ويقتلون ومع ذلك لا يستطيع دفع أي نصيب من العذاب عنهم لا يملك غير توصيتهم بالصبر، ولما ضاق الأمر به وأصحابه ذرعا جاء الأمر من السماء بالهجرة فتأمروا علي منعه وكادوا يقتلونه كما أن هجرة أصحابه لم تكن بالشيء اليسير وكان ما كان حتى نبتت للإسلام دولة فلم تهدأ نار العداوة لتكون معارك طاحنة بينه وبين الكفار الذين ترك لهم مكة بأكملها ليفاجئ بعدها بعدوين جديدين: المنافقين الذين يظهرون مالا يبطنون وهؤلاء خطرهم كان شديدا جديدا، وأهل الكتاب الذين نبذوه وراء ظهورهم فأمنوا ببعضه وكفروا بالبعض الأخر.. هذه الأحداث كان النبي فيها هو الفعل، هو المبادر، هذه الأحداث تؤكد كم كانت تلك الإيجابية متمكنة من قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-..
أين نحن من تلك الإيجابية سواء على المستوى التحديات والمشكلات الشخصية والفردية أو على مستوى التحديات الحضارية وأزمات الأمة عموما؟ بصراحة جارحة جدا جدا إننا خسرنا كثيرا بتخلينا عن هذه القيمة، والأكثر جرحا هو أننا لم نتخل عنها وفقط بل إننا وصلنا لمرحلة أسوء من ذلك بكثير. إننا الآن أو كثيرا منا بدلا من دراسة تحدياتنا وتحلليها وطرح حلول لها ليس على المستوى التنظيري وفقط بل والعملي أيضا صرنا نشر عن لأوضاع الفاسدة البائسة طبعا لأن هذا أسهل بكثير من تحمل مسؤولية التغير ولأسباب أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها الآن.
ولنضرب علي ذلك مثالا: نحن الآن نعاني بشكل واضح جدا من غياب العدالة على الصعيد الاقتصادي فهناك من سحق الفقر عظمه ونثر رمادها في الهواء وهناك من قد تكون على أرصدتهم في البنوك العربية وغير العربية ميزانيات دول ودول. نحن في العادة نتعامل مع أمر مثل هذا كالآتي: تنشر الحكمة أن الصحة خير من المال وأن الذرية خير من المال، وأن معظم الأغنياء غير سعداء ومبتلون بالأمراض الخطيرة التي لا يستطيعون معها التمتع بذلك المال. وعلى الجانب الديني يركز الخطاب على أن المال عرض زائل ومتاع منضيٍ وأن ما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وأن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسين ألف سنة فهم يتمتعون تلك الخمسين ألف سنة في الجنة قبل الأغنياء والنبي كان يدعو اللهم أحيني مسكينا -النبي هنا يقصد الجانب الأخلاقي أكثر من المادي لكنه ينتشر بهذا المعني في هذا السياق- حتي يصبح في النهاية هذا عقلا جميعا رغم أنه لا علاقة له بأصل الموضوع من الأساس وأنه خلط ساذج جدا لكننا للأسف نتعامل ليس مع هذا الأمر فحسب بهذه الطريقة بل تقريبا مع معظم الأمور بهذه السلبية لنجد في النهاية أن معظم المشاكل تتضخم يوما تلو الآخر.
ليس أمامنا خيار آخر سوى التشبع بقيمة الإيجابية التي نفتقر إليها كأشد ما يكون، ولن يكون ذلك إلا بالعودة مرة أخرى للقرآن والتعامل معه بطريقة صحيحة غير التي نستخدمها لأنه في الحقيقة نحن نتعامل مع القرآن بطريقة مشوهة جدا لا تؤدي لأي نتيجة، وهذا ليس لنأخذ منه قيمة الإيجابية وفقط فهي أولا وأخيرا ليست إلا قيمة من قيم، ودرسا من دروسا عدة غفلنا عنها جميعا، ثم بعد ذلك العمل لأن المعرفة النظرية لن تغن عنا شيئا وهذا طبعا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لبدء خطوات الإصلاح التي نفتقدها حتي وإن لم نكملها.
لازالت أؤمن أن القرآن الذي صنعهم يستطيع أن يصنعنا شرط أن نتعامل معه كما تعاملوا معه وحينها فقط سنصل لروح القرآن وأسراره وسنستلهم من قيما وأدوات عظمية لإصلاح أنفسنا والواقع الذي نتحمل مسؤولية تغيره.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة