يوميات طالب سوري في المدارس اللبنانية
كتب بواسطة هانم جمعة
التاريخ:
فى : تحقيقات
1782 مشاهدة
ضحكات بريئة وأقدام صغيرة تسير بخطوات سريعة وسط زحمة السيارات وانصراف الموظفين وتلاميذ المدارس، يخترقون الازدحام والغبار المتصاعد من عوادم السيارات ليدخلوا مدارسهم. مقاعد دراسية يتقاسمها الطالب اللبناني في الصباح مع الطالب السوري في المساء. بصيحات كبيرة تتعالى أصواتهم من قلب مدارس لبنان الرسمية، ليختفي صداها تدريجيا بعد رنين الجرس المرتفع.
هو الطالب السوري الذي خريج من رحم معاناة اللجوء ليبدأ رحلته العلمية في المدارس اللبنانية. رحلة أشبه بمسلسل صراع طويل، فحظوظ التخرج من تلك المدارس تماماً مثل حظوظ العرب في كأس العالم، حيث يتضاءل عدد الطلاب كلما ارتفع الصف، ويظل البقاء مرهون بعدة عوامل عائلية ونفسية ودراسية. أعمار أغلب الطلاب من عمر الثورة السورية أو ربما أصغر، ولدوا في لبنان ولا يعرفون ما يحصل أو حصل في بلادهم، أما آبائهم فمعظمهم لا يجيد القراءة والكتابة، آمالهم كلها معلقة على أطفالهم.
الزي المدرسي المفقود
أول ما يلفت الزائر لهذه المدارس عدم وجود زي رسمي موحد، فطلاب المدارس في سوريا عادة يرتدون الزي الرسمي الموحد في جميع بقاع الأرض السورية، بحسب ما حدد لهم نظامهم. أما هنا في حياة اللجوء، تراهم يلبسون ما يشاؤون من ألوان وتسريحات وإكسسوارات، لا قيود ولا نظام، هي حرية يسودها الفوضى بامتياز.
صفوفهم تضيق بأعدادهم الكبيرة حيث يصل العدد في الصف الواحد إلى ما يزيد عن الأربعين طالباً، أغلبهم ليسوا جادين في طلب العلم، فهدفهم الأساسي يقتصر على تعلم الكتابة والقراءة
ابتسامات أطفال جميلة، أصوات وصراخ في الملعب، علامات العوز تبدوا على مظهر الأطفال. حتى أنني لا زلت أذكر تلك الفتاة في صف الروضة التي بكت في يوم ممطر بملابس صيفية واقدام نحيلة ترتعش من البرد. ربما هو الفقر أو الإهمال! رغم هذه الحرية، هم يفتقدون ذلك الزي المدرسي، حيث يعتبر الخطوة الأولى في طريق اندماجهم في المدارس اللبنانية، كونه من العوامل المهمة التي تعزز انتمائهم للمدرسة أو للبلد أو حتى للتعليم والمنهج اللبناني الصعب.
الدوام القاسي
عدد الطلاب السوريين في لبنان كبير جداً، لذلك تم اختيار دوام خاص لهم، يبدأ من الساعة الثانية ظهراً وينتهي عند السابعة مساءً، بمعدل خمس حصصٍ في اليوم، مع استراحة قصيرة، طبعا لا يوجد فنون ولا رياضة أو أي شيء ترفيهي. يقتصر الدوام على الحصص الأساسية فقط من لغات وعلوم. في أيام الشتاء القصيرة يخرجون في العتمة مسرعين نحو الباصات المكتظة تحت قطرات المطر.
عند الانصراف تحديداً تلمح الضحكات، ليخترق صوت الأطفال هدوء الليل، يرافقه عناق الوداع وأمل يلمع بأعينهم، علهم يجدون مستقبل أجمل من الحاضر. أغلب الطلاب اطفال تحت سن الرابعة عشر، فبعد هذا السن ينصرف الولد لإيواء عائلته وانخراطه بسوق العمل، أما الفتاة فيكون حلمها زوج وبيت وأولاد. سألت يوماً أحد الطلاب السوريين عن مهنته المستقبلية فقال «كشاش حمام» بكل جدية! ضحك الصف وأستهزئ، لكنه أصر على المهنة كونه يحب الحمام ويمتلك على سطح منزله حمام زاجل يطير تحت تعليمات عصى والده.
طموحات محدودة تتناسب مع واقع عائلات الأطفال السوريين في لبنان. هو الواقع نفسه الذي حول حلم الطيار والطبيب والفضائي إلى "كشاش حمام". صفوفهم تضيق بأعدادهم الكبيرة حيث يصل العدد في الصف الواحد إلى ما يزيد عن الأربعين طالباً، أغلبهم ليسوا جادين في طلب العلم، فهدفهم الأساسي يقتصر على تعلم الكتابة والقراءة، بعدها يواجهون الحياة كنساء ورجال صغار. تدرك النضوج المبكر الواضح عليهم، وأحاديث نسائية بين الفتيات وتصرفات رجولية بين الأولاد.
ثقافة العنف
الضرب، الصراخ والعقاب.. مبدأ التعامل بينهم وبين أهلهم، أصدقائهم، حتى المدرسة لا تتحاور معهم بل تستخدم القسوة لضبطهم! يتفاخر أحد طلاب الصف الثالث بضرب ولد في الصف السادس. في أحد الأيام أخبرني ذلك الطالب فرحاً بانه "قتل" ثلاثة! أي أنه ضرب ثلاثة أولاد في الصف السادس، وهذا طبعا إنجاز عظيم وانتصار، تفوّق به على نفسه بحسب معتقده.
دخلتُ يوماً الصف فوجدتُ دماء على الارض وولد يبكي والدماء تسيل من رأسه. صرختْ فتاة "لقد فُتح رأس مهند بالحديدة!" ببكاء يختنق ذهب مهند إلى ممرضة المدرسة. لا أخفيكم أنني في تلك اللحظة لم أشعر بقدماي من شدة الذهول، بالمقابل تلك المشاهد كانت عادية بالنسبة للطلاب. في اليوم التالي عاد مهند إلى الصف، بضحكاته ونشاطه وطمئنني بأنه بخير، مع بعض خيوط طبية ظاهرة على رأسه. طُرد الولد المرتكب لتلك الفاعلة، لكنني سمعت من إحدى المعلمات ان الفاعل طفل يضربه والده يومياً بعد أن يربطه بأسلاكٍ حديدية، كما يعاني من تعنيف يشابه التعذيب في سجون الظلام.
لا تتعجب إن دخل طفل إلى الصّف حاملاً عصى، يعطيها إلى المعلم لتأديب أصدقائه في حال الفوضى داخل الصف! حتى في الصفوف الصغيرة تراهم يتوددون إلى المعلمة بإعطائها عصى أو مسطرة غليظة. حالات وظروف ظالمة يعيشها الأولاد داخل أسرهم، و ثقافة العنف تلك من الواضح أنها امتدت من النظام الحاكم في سوريا، مخترقة العائلة حتى الملاعب والصفوف، فالعنف لا يولّد إلا العنف وهو كالعدوى تنتشر بينهم.
قصاصات من الحب
مع كل هذا العنف والقسوة الظاهر على أغلب التلاميذ السوريين، تُصرّ فطرة الحب أن تخرج من قلوب أطفال سوريا، فحتى المعلمة الصّارمة بعد أن تغادر الصف، يستقبلها التلاميذ بابتسامات في الشارع أو على باب المدرسة. مع التلويح لها بكل عفوية وحب. تجمع معظم الفتيات الصغار قصاصات أوراق ممزقة مهترئة، تلونها بالأحمر ثم تصنع ظرفاً بداخله قلوبٌ ورقية. البنات يرغبن بالحب، يصنعنه بأيديهن بممتلكاتهن المتعبة.
بابتسامة خجولة وعيون تنظر إلى الأرض يهدون زهور ذابلة، بالطبع فالزهرة التي قطفتها الطفلة في الصباح لن تصمد برونقها للمساء. ينتظرون عناق من المعلمة، لكن العناق من الممنوعات في المدرسة، أعتقد أنني لن أصمد طويلا أمام قوانين المدرسة الصارمة. كله من أجل ضبط الصفوف ومنعاً للفوضى. يصارع الحب البقاء، ليغدو فطرةً صادقةً خُلقت في داخلنا، ليثبُت في النهاية أن العنف مكتسب من الحياة القاسية والحروب والظلم.
حرب سوريا دمرت الحجر والبشر، شردت عوائل وضيعت قلوب، تبقى هذه الزهور أمانة في أعناقنا، أمانة في أيدي عائلاتهم وفي مدارسهم. صحيح أن العرب والعالم لم يستطيعوا انقاذ سوريا وحقن الدماء. لكن لما لا نتساعد نحن في دول الجوار لإنقاذ مستقبلهم، لإنقاذ طلابهم مما هو أشد خطراً وفتكاً عليهم، ألا وهو الجهل. دعنا نسعى إلى تشجيعهم على العلم والمعرفة. لحمايتهم من الشوارع والضياع، علّهم يحصدون علماً يبنون به أوطانهم من جديد.
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة