كاتبة
الملاذ الأول والأخير
كتب بواسطة ثناء أبو صالح
التاريخ:
فى : قصص
1817 مشاهدة
اتجهت بأقدام مُثقلة وجفون متورمة، نحو صيدلية المنزل، فتحتها ومدّت يدها تقلّب في محتوياتها باحثة عن حبوبٍ للصداع .
سألها ولدها المراهق : عمّ تبحثين ؟
رنت إليه بنظرات عاتبة وهتفتْ : سامحكَ الله
أطرق بنظراته إلى الأرض وابتعد.. تراه يحسّ بتأنيب الضمير ؟؟
عادت تجرّ قدميها وتهالكت فوق السرير تضغط رأسها بالوسادة، علّها تخفّف شيئًا من ألمه، وتكتم الأسئلة الموّارة فيه .. يا رب ماذا أفعل ؟؟
في كل مرة تواجهه فيها، لا تخرج منه بشيء، دائما يروغ منها كما يروغ الثعلب، لا تظفر منه بحق أو باطل.. نظراته ساكنة، ملامحه جامدة، هادئ صامت صامت . ما من شيء يدل على أنه يعي ما تقول، أو يعاني مما تقول، وهي .. يكاد الهمّ يذهب بعقلها وعقلها معًا، ولا تملك إلا أن تردد : سامحكَ الله يا ولدي، إلى متى ؟ ألا تدرك ما أعانيه بسببك ؟؟
وتتذكر أمها - كلما حضرت موقفًا بينهما - تهزّ رأسها ثم تقول : يا ابنتي كلهم في هذه السن سواء، هي فترة وتمرّ فلا تقلقي .
فترة ! وما أدراني أنها ستمر بسلام ؟ وهل تمر هكذا دون آثار أو بصمات يحملها في روحه مدى العمر ؟؟ لا .. فلأحاول محاولة جديدة، واحدة أخرى على الأقل .
وفي كل مرة تعد نفسها أنها ستكون المرة الأخيرة، ثم ستتركه وشأنه..
لكنها تذكر مسؤوليتها نحوه، وترنّ في سمعها كلماته عز وجل { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة }
فيرتجف قلبها خوفًا وهلعًا، وتزداد تصميمًا على تكرار المحاولة إلى أن يستجيب. وأمها ترى همّها المقيم فما تنفك تردد : يا ابنتي خففي عنك وعنه قليلا وإلا كرهك.
يكرهني ! ؟ لا يهم، المهم أن يكون كما يحب الله ورسوله، في السر والعلن، ولكن كيف ؟؟ كيف ؟؟ .. يا رب مالي سواك، أنت ملاذي فأخرجني من حيرتي، وخذ بيده نحو الحق والنور .
في كل مرة تسجد فيها وتلامس جبهتها الأرض، كانت تدعو له ضارعةً من أعمق أعماقها، له وحده .. وتذهل عن كل ما عداه ومن عداه، كان همه ثقيلا رازحًا فوق صدرها، يقتات من أعصابها ليل نهار، تتراءى في مخيلتها صور لشبابٍ طائشٍ في أعمارٍ غضّةٍ، دفعتهم رعونة المراهقة وغفلة الأهل في ظلمات طريقٍ لا نهاية له .. فتمسك بقلبها وتهمس : يا رب .. ليس هذا ما أريده لولدي، يا رب أنت أرحم به مني فلا تكِله لنفسه طرفة عين .
يا ليتهم بقوا صغارًا، يثيرها ضجيجهم، وتتعبها حركتهم ولعبهم الدائب، آه .. يا ليت همها بقي صغيرًا ولم يشب معهم هو الآخر ..
كان همها قديمًا أن تؤمن لهم ما يحتاجون من طعامٍ وشرابٍ، أن ترفّه عنهم وتنتزع ضحكاتهم، أن تملأ عقولهم وقلوبهم بحب الله ورسوله..
وكانت ترى طريق التربية سهلا ميسورًا، إلى أن وصل ولدها هذا عتبة المراهقة ، ترى أين الخطأ ؟؟ أين الخطأ ؟
وتكدّ ذهنها في محاولة العثور على السبب، يعلم الله أنها بذلت له ما بذلت لغيره من إخوته، من جهدها ومالها ومشاعرها، فأين الخطأ ؟ لمَ نشأ هكذا متهاونًا كاذبًا صامتًا غامضًا ؟؟
آآآه ليتني أعرف .. إذًا لتخففتُ من حيرتي، ولعلي بعدها أحظى بليلة واحدة لا تؤرقني فيها أحلامي ولا تذبحني أفكاري .
لطالما ألحتْ وتوسلتْ .. ولطالما ثارتْ وهدّدتْ .. ولطالما تساءلتْ : يا ولدي أي خطأ ارتكبتُه أنا ؟ أي جرم أذنبته في حقك ؟ لك لا تصارحني به ؟ لم لا تعينني على إدراكه ؟ لم .. لم ؟ ... ولا فائدة
وتسترجع كلمات أمها، لعلك يا أم على حق، ولعل أفعاله بمقياس السن وجموح المراهقة شيء يسير، ولكن .. أما يبدأ كل انحراف دائما من درجة متناهية في الصغر، ليمتد ويمتد .. وإلى أين ؟ الله وحده يعلم .
***
كتمت دموعها وحسراتها في الوسادة، ومضت تتقلب في فراشها ، تتمنى إغفاءة قصيرة تريحها من عناء الألم، ومرت السويعات ولم تنم..
وارتفع أذان الفجر أخيرا نديًّا يغسل صدأ القلوب، وشدّت نفسها تكابد الصداع الممض، لتتجه إلى الحمّام، ولدهشتها ... رأته خارجا منها يقطر ماء الوضوء من وجهه ويديه .
رنا إليها بنظرات أحسّتها تنطق بالندم.. وأشياء أخرى، ثم همس بتردد : ألا .. ألا زال رأسك يؤلمك ؟
أجابته وقد أشرقت ملامحها : لا يا ولدي، لقد زال عني كل ألم
أدرك ما تعنيه فخفض بصره إلى الأرض، فلم تملك نفسها، وأهوت على رأسه تقبله ودموعها تبلله وهي تردد : الحمد لله ..
المصدر : صفحة حروف تلوّن الحياة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن